إن وصف بعض الظواهر والمخلوقات بالشر المحض ليس حقيقيا، بل هو نسبي باعتبار ما يقع على الانسان من ضرر بسببها، ولو استعرضنا جميع الأشياء الموجودة في هذا العالم المسماة عند العموم شرورا، لم نجدها في ذاتها شرورا، بل هي شرور بالعرض وكمال بالذات. حتى الأخلاق الذميمة هي كمالات للنفوس السبعية والبهيمية ليست بشرور ذاتية، إنما شرية هذه الأَخلاق بالقياس إلى النفوس الضعيفة العاجزة عن ضبط قواها عن الإفراط والتفريط، وعن سوقها إلى مسالك الطاعة الذي تناط به السعادة الباقية. فليس في خلق هذه الحوادث والموجودات شيء يخالف الحكمة، لأن الله -سبحانه- خلقها على أكمل خلقة، وأعطاها ما يكفيها للحياة وإنما تتصف هذه الحوادث والموجودات بالشر عرضا، ويتراءى للبعض أنها خلاف الحكمة عند المقارنة بغيرها، وهذا أمر ذهني لا وجود له خارج الذهن. فالنظر إلى الأشياء بنظر الأنانية، وتناسي سائر الموجودات يصور لنا أن الشر له عينية خارجية كالموصوف، والحق أَنه أمر عدمي يتوجه إليه الذهن عند المقارنة بغيره فقط. بل إن هذه الحوادث لها آثار تربوية حسنة، مهمة في حياة البشر المادية، فهي تزيح الغرور والغفلة عن الضمائر والعقول؛ ولأَجل هذه الفوائد يصح إيجادها، سواء قيل إن الشر موجود بالذات، كما يقوله المعترض، أو قيل إنه موجود بالعرض على الصحيح. فالبلايا والمصائب وسيلة لتفجير الطاقات، وتقدم العلوم، ورقي الحياة البشرية، وعلماء الحضارات يصرحون بأن أكثر الحضارات لم تزدهر إلا في أَجواء الحروب والصراعات والمنافسات حيث الناس يلجأون بسببها إلى استحداث وسائل الدفاع في مواجهة الأعداء، أو إصلاح ما خربته الحروب، ففي هذه الظروف تتحرك القابليات بجبران ما فات، وتتميم ما نقص، وتهيئة ما يلزم. وإلى هذه الحقيقة يشير قوله سبحانه: «فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا». فالمصائب تنذر بأن التمتع بالمواهب المادية، والاستغراق في اللذائذ والشهوات يوجب غفلة عن القيم الأخلاقية، وكلما توسع الإنسان في اللذائذ، ازداد بعدا عن الجوانب المعنوية، وهذه حقيقة يلمسها كل إنسان في الحياة، فلا بدّ أن ينتبه الإنسان من هذه الغفلة بهزّة تذكّره وتوقظه من غفلته، وليس هناك أَنفع من بعض الحوادث التي تقطع نظام الحياة الناعمة بشيء من المزعجات حتى يدرك عجزه، ويتخلى عن غروره، ويخفف من طغيانه. ولهذا علل الله نزول الضر للذكرى والرجوع إلى الله، قال سبحانه: «وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ»، وقال: «وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ». فالمصائب قد تكون سببا ليقظة الإنسان، والتكامل الأخلاقي رهن المحن، كما أنَّ التفتح العقلي رهن البلايا والنوازل. والإِنسان الواعي يتخذها وسيلة للتخلي عن الغرور، كما يتخذها سلماً للرقي إلى مدارج الكمال، وقد لا يستفيد منها شيئاً فيعدّها مصيبة وكارثة في الحياة. إِنَّ بقاء الحياة على نمط واحد يوجب ألا تتجلى للإنسان محاب الحياة ولذائذها، بخلاف ما إذا تراوحت بين المُرّ والحلو، والجميل والقبيح، فلا يمكن معرفة السلامة إلاّ بالوقوف على العيب، ولا الصّحة إلاّ بمس المرض، ولا العافية إِلاّ بنزول البلاء، ولا يدرك كمال لذة الحلاوة إِلاّ بتذوق المرارة. إن جمال الحياة وقيمة الطبيعة ينشآن من التنوع والانتقال من حال الى حال، ومن وضع إلى آخر؛ ولأجل ذلك خلق الله الوديان جنب الجبال، والأَشواك جنب الورود، والثّمار المرّة جنب الحلوة، والماء الأَجاج جنب العذب الفرات، إلى غير ذلك من مظاهر التضاد والتباين التي تضفي على الطبيعة بهاء وجمالا وكمالا وجلالا. إن الآثار التربوية للمصائب والبلايا، تكفي في تسويغ نزولها، ولا مناص في الحياة البشريَّة منها، فلا تعد مناقضة للنَّظْم السائد، ولا لحكمة الخالق، ولا لعدله وقسطه سبحانه وتعالى. * مدير عام هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمنطقة مكة سابقا