ما بين "الردع" المطلوب، و"العصف" المشبوه، تقف مصر على حافة قانون مكافحة الإرهاب المقترح، منقسمة كعادتها في السنوات الأربع الأخيرة.. ومتضاربة كبقية سنواتها التي يعلم الله وحده كيف ستلتئم.! فالقانون الذي رحب به كثيرون في الشارع السياسي، بل كانوا أكثر تطرفاً ودعوا لما هو أشد منه (فرض حال الطوارئ)، انتقده كثيرون أيضاً، واعتبروا أن تمريره سيضع البلاد على حافة "مكارثية" جديدة، لا مكان فيها إلا للصوت الواحد. بعد أزمة قانوني الانتخابات البرلمانية وتقسيم الدوائر، اللذين يستعصيان على الحل، حتى الآن، بانتظار توافق "تشريعي" ما، يضخ الأمل في شريان الاستحقاق الثالث والأخير من خارطة الطريق، التي أقرتها القوات المسلحة المصرية عقب عزل الرئيس الأسبق محمد مرسي في 3/7/2013، ليصبح الوضع بعد عامين من هذا التاريخ "محلك سر".. ينشأ جدل آخر، أكثر صخباً وضجيجاً. إنه جدل قانون مكافحة الإرهاب، الذي دعا لإنجازه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بأسرع وقت؛ لمواجهة أعمال العنف في البلاد، والمنسوبة لجماعات الإسلام السياسي وعلى رأسها جماعة الإخوان المحظورة ومؤيدوها من ميليشيات وجماعات تكفيرية. شرارة البداية الرئيس السيسي، الذي بدا "متوتراً" خلال تشييع جنازة النائب العام الذي قتل في حادث إرهابي، الاثنين قبل الماضي، ألمح لضرورة التعامل مع الأحداث الإرهابية بشكل مختلف عما هو عليه الآن في بلاده، حيث اعتبر صراحة أن "يد العدالة مغلولة" في إشارة لبطء الإجراءات وطول جلسات التقاضي، وإن كان أكد بشكل هو الأول منذ توليه منصبه، في يوليو من العام الماضي، أن الحكومة ستنفذ أي حكم بالإعدام أو المؤبد على أي متهم، في إشارة أثارت فزع جماعة الإخوان من إمكانية إعدام قادتها المدانين في أحداث العنف، بينما وجدت ترحيباً هائلاً في الشارع المصري. كرة النار وكأن مصر تحتاج لمن يصب الزيت على النار، كانت كارثة ما حدث في سيناء، من هجمات لتنظيمات إرهابية على كمائن عسكرية في شمال شبه الجزيرة المضطرب، في وقت متزامن، وما صحبه من تعامل إعلامي داخلي، أثار موجة عنيفة من الاستياء والهجوم، تدحرجت معه كرة النار الغاضبة لأول مرة، لتأتي رسمياً من قبل الجيش الذي استنكر هذا التخبط الذي ضرب غالبية وسائل الإعلام المصرية، بكل ما فيه من تجهيل وتحريف. تتصاعد الاتهامات وحملة ناقمة غير مسبوقة، خاصة بعد بيان القوات المسلحة حول حقيقة ما جرى في سيناء، وحجم الخسائر، ليتضح في صمت وغضب أن مصر أمام حالة "تهريج" إعلامية سبق ان انتقدها كثيرون، وحذروا منها، تسربت فيها معايير المهنة لتحل لعبة المصلحة، وتلاشت قيم الموضوعية، لتطل ببجاحة أصابع التلفيق لزيادة المبيعات أو المشاهدة. لتعلو الأصوات مطالبة بإيجاد حل لإشكالية "إعلام منفلت" استباح كل شيء، كما يراه كثيرون، بالتزامن مع مقال لكاتب يرأس تحرير إحدى الصحف الخاصة، أشار لنفسه كأنه "صرصار" في مجتمع مليء بالصراصير.. لتقوم القيامة ولا تقعد.! دعوات للمقاطعة ومع زيادة حدة الاحتقان الإعلامي، دعا نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي، لاعتبار اليوم الجمعة 10 يوليو يوماً لمقاطعة جميع وسائل الإعلام، وانتشرت دعوات كثيرة تطالب بعدم شراء الصحف، أو مشاهدة قنوات الفضائيات الخاصة التي يسيطر عليها بعض رجال الأعمال (المحسوبين على نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك)، وكذا عدم فتح المواقع الإلكترونية، وتهديدات أخرى، بإمكانية أن يطول هذا اليوم، ليصبح أسابيع أو شهوراً.. لتسود حالة ذعر خفية، قيل بعدها أن مالك مجموعة قنوات باعها سراً للخلاص. خروج عن الصمت سبق ذلك، حدث نادر، بيان عسكري، مساء الأربعاء، خرج عن صمته ووقاره، فبعد أن كان يكتفي سابقاً، بمجرد "الدعوة لتحري المصداقية والحقيقة" أشار لأول مرة إلى ما اعتبره "مؤامرة إعلامية" تورطت فيها وسائل إعلام مصرية وعربية وأجنبية بشأن التعامل "غير المقبول" مع مجريات ما حدث في الشيخ زويد ورفح، والإشارة بشكل خفيّ إلى توصيف ما حدث بأنه "خيانة" لجيش يخوض أشرس معركة، وكذا اتهام هو الأخطر بوجود "من يشنون حملة نفسية موجهة للنيل من عزيمة الجيش والشعب" في وقت حرب شرسة تخوضها مصر ضد الإرهاب. حمم غاضبة قانون الإرهاب الذي وافق عليه مجلس القضاء الأعلى مع إبداء بعض الملاحظات الخاصة بالمسائل الإجرائية التي تضمنها، وإرساله إلى وزارة العدالة الانتقالية تمهيدًا لإحالته إلى قسم التشريع بمجلس الدولة مجددا؛ لإجراء المراجعة القانونية بشأنه على ضوء ملاحظات المجلس، قبل عرضه على الرئيس للتصديق عليه وبدء تنفيذه فور إعلانه في الجريدة الرسمية.. جاء ليضيف إلى الحمم البركانية التي تتقاذفها البلاد بين الحين والآخر.. حديثاً عن عودة الاستبداد والقمع وتكميم الأفواه والحجر على الآراء.. الأمر الذي دعا رئيس الوزراء، إبراهيم محلب، للتأكيد على أن لا علاقة للقانون إطلاقاً بالصحافة وقال إنه فقط "للذين يبثون أخباراً مغلوطةً عن الجيش". تصعيد ومشادات لم تكن أصوات الغاضبين مقتصرة على تيارات سياسية، ولكن دخلت نقابة الصحفيين على الخط ببيان ساخط، الاثنين، واعتبرت أن إقراره يمكن أن يؤدي إلى مصادرة الحريات العامة خاصة حرية الصحافة والإعلام. وصعدت من موقفها بالدعوة لاجتماع طارئ الخميس. خالد البلشي رئيس لجنة الحريات بالنقابة قال: إن بعض مواد مشروع القانون اخترقت الدستور المصري الذي حظي بموافقة 98 بالمائة من الشعب. وأضاف على هامش الاجتماع الطارئ للنقابة، أن بعض المواد "تكبل الصحفيين وتنال من حرية تداول المعلومات، وأنها ستعود بالصحافة إلى الوراء". ويستمر الجدل، بمشادة عنيفة على الهواء، في إحدى القنوات مساء الاثنين، بين سكرتير عام النقابة جمال عبدالرحيم، واللواء محمد الشهاوي المستشار بكلية القيادة والأركان العسكرية، الذي قال إن هذا القانون لمكافحة الإرهاب، ويجب على الجميع الوقوف معه وليس ضده، ثم تابع: "مش هنقرأ جرايد وهنقعد الصحفيين في البيت"، ليثور عبدالرحيم: "صحفيين مين اللي تقعدهم، لا أنت ولا غيرك ولا أي جهة في مصر تستطيع أن تقعد صحفيا في البيت". معركة مفتعلة نقيب الصحفيين، يحيى قلاش، استنكر تصريح رئيس الوزراء إبراهيم محلب، الذي قال فيه إن "قانون الإرهاب ما تكلمش عن الصحافة".. وأوضح في تصريحات صحفية، أن الصحفيين "لا يفتعلون معركة وأن هناك من يفتعل معركة بالخلط بين الإعلام والإرهاب"، حيث إن الصحافة والإعلام أحد أسلحة مواجهة الإرهاب، مشيرًا إلى إنه لو استطاع رئيس مجلس الوزراء إقناع الصحفيين بأن المواد المعترض عليها من قبل النقابة لا علاقة لها بالصحفيين "فنحن على استعداد للتصديق والاقتناع". ..ومجلس القضاء يعترض عاصفة الصحفيين، لم تكن الوحيدة، باعتراضهم على 5 مواد (26، 27، 29، 33، و37) ل"تقييدها الحريات ومخالفتها للدستور الحالي" وتحديداً المادة 71 التي تحظر فرض أي عقوبات سالبة للحريات على جرائم النشر، ولكن جاء الاعتراض الأهم من المجلس الأعلى للقضاء، الذي اعترض على ثلاث مواد أخرى (48، 50، و51)، والخاصة ب"إنشاء محكمة مختصة وتخفيض مدة الطعن واعتبار حضور المحامي يغني عن وجود المتهم". الصحفيون الذين نقموا تحديداً على المادة 33 من مشروع القانون، والتي تنص على أن "يعاقب بالحبس الذي لا تقل مدته عن سنتين، كل من تعمد نشر أخبارا أو بيانات غير حقيقية عن أي عمليات إرهابية بما يخالف البيانات الرسمية الصادرة عن الجهات المعنية، وذلك دون إخلال بالعقوبات التأديبية المقررة في هذا الشأن".. ويستمر الجدل جدل مثير تتصاعد فيه لعبة عض الأصابع، بشأن قانون له أنصاره بمبرراتهم التي وصلت لاعتبار حرية الصحافة "سبّوبة" للتكسب، وله معارضوه بتخوفاتهم، فهل يستمر؟ أم يدخل أدراج النسيان، كعادة المصريين، الذين صخبوا قبل أشهر في جدل مماثل، حول الانتخابات البرلمانية، الذي عصفت المحكمة الدستورية العليا، بمشروعه الأول، ليجلس متربعاً على قائمة الانتظار في ظل زوابع كثيرة تبحث عن "المسيح المخلص" في وطن لا يزال يعجّ بالمتناقضات!.