في سن مبكرة كغيري من دارسي منهج الأدب, عرفت الصعاليك!.. لم تكن معلمتي موظفة يائسة في سلك التعليم مقابل راتب تعقبُه بالشكايات والتذمر. كانت تمارس مهنتها بحب. تقرأ قصيدة جاهلية, فنسمع رغاء ناقة وصليل سيف ولهاث عَدْوٍ وهسيس الرمل الجاف تحت أقدام الرحّل العارية. لذاك لم يعبروا على ذاكرتي بسلام.. بل أصبحت أشك أنهم ما زالوا يتدخلون في نبضي وأحلامي. وقد مثلوا محورا مهما لسنيّ الدراسية والإدراكية بعدئذ. فأصبح الصعلوك الذي تجاوز فقره ونبذ قبيلته إلى السمو والكرم والنبل قَدْحَ أسئلتي وحطب شرودي. وجدته رجلا فقيرا كسولا, معولا, حانقا, مغرورا, اعتاد ارتياد المقاهي الرخيصة والحانات ففتك به إدمان الكحول. حتى أصبح رجلا غائبا عن الواقع, يتمدد على قارعة الحظ بانتظار قدر جميل. الصعلوك الذي استعاض عن الفرس بقدميه, وعن قيود القبائل وقوانينها الجائرة بقانونه هو, الصعلوك الذي حول السلب إلى مساعدة المحتاجين, والنهب عقابا للبخلاء والجشعين. الصعلوك ضامر البطن الذي لا تمتد يده إلى الطعام وثمة جياع في المكان كالشنفرى, وصاحب العدالة الذي لا يهنأ قبل أن يهنأ المعدمون والمهملون مثل عروة بن الورد, والعداء الصحراوي السليك. الصعاليك الذي فضلوا السغب والتشرد على العيش بنفقات القبلية ومصانعة المتغطرسين من قياداتها, وأسندوا الركن الضعيف من الناس: المعوزين!. هؤلاء الذين لم يردوا يد ملهوف أو مستصرخ.. أين هم الآن؟ على غرار فلم دافنشي, رحت أبحث عن إمكانية أن يكون لهم نسل حي. وربما لقلة الموارد, عدلت عن هذا ورحت أفتش عن صعاليك في هذا الزمن.. ووقع تحت يدي سيرة لشاعر عاش في ثلاثينيات القرن الفائت, لُقب بوريث الصعاليك. فرحت ألتهم سيرته وشعره بحثا عن صعلوك حقيقي. لكنني وجدته رجلا فقيرا كسولا, معولا, حانقا, مغرورا, اعتاد ارتياد المقاهي الرخيصة والحانات ففتك به إدمان الكحول. حتى أصبح رجلا غائبا عن الواقع, يتمدد على قارعة الحظ بانتظار قدر جميل يهبط كالمطر الموسمي, لينتشله من بؤسه ومعاناته. غائب عن حقيقة وضعه المادي والأخلاقي فصب غضبه كالحديد المصهور على كل شيء من حوله. متناسيا أن حالته الرثة لن يعالجها الهجاء والنقمة. الشاعر الذي عاش أربعين سنة ونيف: عبدالحميد الديب, لم يكن شفاء أسئلتي ولا نهاية بحثي.. فما زال البحث جاريا.