الاستخدام العاثر للوعي، بتعبير فرويد، هو أحد العوامل الذي تتحمل بموجبه النخبة تحويل مواقع التواصل الاجتماعي إلى ميادين للتكاره الاجتماعي. حيث بات موقع تويتر- مثلاً- مكباً لكل حماقات المجتمع وجهالاته. وذلك نتيجة طبيعية لكثرة هفوات من يُصنّفون أنفسهم في خانة النخب، وعدم انتباههم لما يؤدونه من فروض تضئيل الآخر وتهميشه، بل تهشيمه. باستجلاب أدوات الشقاق الاجتماعي إلى هذا الفضاء التفاعلي. وتوطينها كوسائل حوارية مسبوكة في كلمات وعبارات جذابة تغري الجمهور بترديدها واستمراء التخاطب بها. وفي هذا الصدد يمكن تأمُّل مصطلح (قصف الجبهة) الذي لا أرى فيه أي بعد معرفي أو جمالي أو أخلاقي. بقدر ما يبدو لي كحالة من حالات استعراض القوة الفائضة. التي يتم تصريفها بعدوانية صريحة تقتل أي إمكانية للحوار. وكأن الطريقة الوحيدة والمثلى لمخاطبة السفهاء هي في قصف جباههم، حسب المصطلح، وإضحاك المغردين. وأن الذات التي تم استفزازها بعبارات تحقيرية غير قادرة على ممارسة بعض التواضع الإنساني والتخفُّف من نرجسيتها. بمعنى أنها ذات تريد القول بأنها على درجة من العدوانية والحماقة والانغلاق والاستعداد لتبادل الشتائم في أي لحظة. وأن رداء الوقار أو المعرفة الذي يغطيها ليس سوى قشرة رهيفة تخبئ ذاتاً لا تقل حماقة عن أوباش تويتر. هذا هو ما يفسر افتعال مواقف ساذجة يتم عبرها إشاعة ثقافة قصف الجبهة، وتلميع فصيل من قاصفي الجبهات. وذلك من خلال حسابات مدبرة تتقن هذا الاستعراض التويتري. وهنا مكمن الخطر على الذات التي تعيش في ثقافة تختزن شبهة الكراهية. وتخلو من مشاعر التجاذب الوجداني. كما يتبدى ذلك في العرض النفسي اللغوي. بكل ما تحمله تلك الأعراض المرضية من علامات الضيق بالرأي الآخر، والاستخفاف بمشاعره، والرغبة في إعلان التفوق، وتمديد الذات في مجال حيوي أبعد. بمعنى أن الذات التي تمتهن قصف الجبهات ما هي إلا نتاج وضحية لما يُعرف ب (الطبع الاجتماعي). وأنها ليست بمعزل عن رداءاته. إن هذه الذاتية الفارطة، التي تتسيج بميكانزمات دفاعية ثقيلة، قد تتحول بمقتضى عادات قصف الجبهة إلى عدوانية صريحة. توطّن فكرة النموذج الاجتماعي بكل عطالاته التي لا يمكن الفكاك منها. وتصلّب مفاهيم الرد بالمثل، المتأتية في الأصل من خوف الذات المزمن من الآخر. ومن أخطار التهميش والإقصاء. وهذا يعني أن إتيان فروض قصف الجبهة بهذه الطريقة الاستهزائية يعني الاستجابة لطبيعة اللاوعي الاجتماعية. بكل مظاهرها الهبائية. بما هي شكل من أشكال دراما تدمير الذات من خلال تدمير الآخر. ما تفتقده الذات العارفة هنا في قصفها الدائم لجبهات المتسافهين، هو المعرفة الوجدانية التي تستكمل المعرفة الفكرية. وبها يمكن إنزال الذات من تعاليها المعرفي إلى أرضية التماس مع الواقع. إذ لا بد أن تنبني العلاقة مع المغرد المستفز على أسس تجريبية واقعية. بمعنى أن تجيد فن تبصير الذات الهازئة بطبيعة كينونتها، لا التلاسن معها في سباق شتائمي إلى الأسفل. وهذا هو ما يكفل لها بعض الاستنارة. أي دفعها للتواصل مع حقائق الخير والجمال لتكتمل تجربة الحوار الخلاق. لا منتصر في معركة قصف الجبهات، مهما بدا القاصف متمكناً من اللغة التي يرد بها ومتأكداً من خزينه المعرفي. لأن المقصوف استطاع استدراج القاصف إلى مستنقع. وهو إذ لا يخشى من البلل بمقدوره تلويث القاصف وتمديد شخصيته بجانبها الشتائمي في الفضاء الاجتماعي عرضة للتآكل. حيث يمكن تعطيلها بمعارك هامشية يومية لا طائل من ورائها سوى اكتساب صفة قاصف الجبهة المتوج ببطولة في حلبة تويتر. والإحساس بمتعة النصر اللحظية، فيما يخسر ذاته إلى الأبد. وكأنه ينسى بكل ما امتلكه من معرفة أن الذات الواعية هي التي تعرف المداخل المقدسة والمواطئ المدّنسة.