هل يكفي أن نتكلم لغة واحدة ليفهم أحدنا الآخر؟ أو لنتجاوز حاجز الرطانة إلى الكلام المفهوم؟ قد لا يختلف حالنا، أحيانا، عن حال التلميذ الذي سأله معلّمه: «هل فهمتَ ما قلتُه يا جون؟» يتردد جون قليلا قبل أن يجيب: «لقد سمعتُ ما قلتَه يا سيدي».. ترى هل يوجد تعريف للرطانة أبلغ من تلك الإجابة؟ أثارت إجابة جون ضَحِك زملائه، فبين «فهمت» و «سمعت» بون شاسع. وإذا كان الرباط الأقوى للتواصل هو اللغة، وإذا كانت الرطانة كلاما غير مفهوم، فإن كلام المعلم مجرد رطانة سمعها جون ولم يفهمها. مع أنهما يتكلمان لغة واحدة. إن الحروف والكلمات وقواعد اللغة وفنون البيان تصبح عديمة الجدوى حين تعجز عن مخاطبة العقل والوجدان. معنى ذلك أن التخاطب بلغة واحدة لا يحقق، بالضرورة، فهما مشتركا، وقد تشكل اللغة أحيانا حاجزا بين المرسل والمستقبل بدلا من أن تكون أداة تواصل. أردت بهذه المقدمة أن أطرح السؤال التالي: هل كان خطاب التنوير العربي مجرد رطانة؟ إن النتائج تدعو إلى مثل هذا الافتراض. وفي مجتمع تقليدي يتشبث بالمتوارث والمألوف وتسوده الأمية الثقافية، بقيت الأفكار والمفاهيم التي بشرت بها النخب المثقفة قابعةً في متون الكتب، أو متداولة بين النخب نفسها، وغير قابلة للتطبيق على أرض الواقع. كذلك بالغت النخبة في الثقة بقدرتها على التأثير في الناس، فبقي خطابها في وادٍ وتفكير الجمهور وتطلعاته في وادٍ آخر. هنالك من يرى أن الفرنسيين أنفسَهم لم ينتفضوا متأثرين بأفكار فولتير وروسو ومونتسكيو، بل لأنهم كانوا يتضورون جوعا. لكن كرين برينتون مؤلف «تشكيل العقل الحديث» يرى أن الأفكار والظروف الموضوعية مجتمعة فعلت فعلها. ومع وجود تلك الفجوة الفكرية الفاصلة بين النخبة والجماهير أصبح تأثير المشعوذ وبائع الوهم أقوى من تأثير المفكر. كما أصبح الخطاب الإنشائي الذي يجاري المزاج العام ويخطب ودَّ العامة أقوى من تأثير الثقافة المعنية بطرح الأسئلة. لذلك استطاع الأوصياء على الفكر اختطاف المجتمع بأسره، والاستحواذ على كل المنابر والمؤسسات الثقافية والإعلامية. وأصبحت الإقامة في عالم اللفظ بديلا عن التَّماس مع الواقع والاهتمام بالوجود. اعتمد بعضهم لكسب شعبيته على تدني مستوى وعي الشارع. فكرّس ما هو راسخ أصلا في ذاكرة المتلقي الذي اكتسب، بسبب تربيته التقليدية، مناعةً تقاوم الأفكار الجديدة. كان المتلقي العادي مهيأً منذ صغره لاستقبال واستيعاب ذلك الخطاب المعاد. بل كان قادرا على تكملة العبارات والاقتباسات والأمثال نيابة عن المتحدث نفسه. وبقيت الأصوات المستنيرة خافتة لا تكاد تسمع. لقد شكلت الحواجز المتوارثة منفى. فلم تجد تلك الأفكار بيئة حاضنة. كانت أشبه بالرطانة. كما لم يقيض لها الحصول على مؤازرة صنَّاع القرار. ولم تكن ضمن أجندة المؤسسات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية كافة. «ومن لا مكان له لا دور له» كما يقال. وإذا كان الفرق بين الوعي والغيبوبة هو الانفتاح على الحياة، والسلوك الحضاري الراقي، فما عليك، لقياس مستوى الوعي، سوى أن تلاحظ الاهتمام بالعرضي والزائل، وتتأمل الشعبية الكاسحة لبعض الأصوات النشاز. عليك كذلك أن تقيس الفجوة المخيفة بين المادي والثقافي، وأن تلقي نظرة على نوعية الكتب الأكثر انتشارا، وتقرأ مؤشر مبيعات الكتب التي تكرس البلاهة. وتتابع الاحتراب الفئوي على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا تنس أن تطَّلع على نتائج الانتخابات العربية المخيبة للتوقعات. * متخصص في الإدارة المقارنة