لأنه تحول في 18 يوماً، إلى رمز كبير لدى المصريين، بكل تجلياته "الثورية" أو الاحتجاجية، أو حتى موطئاً لما تعتبره قلة من المصريين "مؤامرة" مزدوجة.. بات ميدان التحرير، محطة مهمة فاقت شهرته كونه معلماً أثرياً مميزاً في قلب العاصمة القاهرة. فالميدان الأكبر في مصر، الذي حمل في بدايات إنشائه، اسم ميدان "الإسماعيلية" نسبة إلى الخديوي إسماعيل (1863-1879)، الذي أمر به، مرّ بعدة تحولات دراماتيكية، اقتنص لقب "التحرير" نسبة إلى دعوات التحرر من الاستعمار مع ثورة 1919، رسخ اسمه الجديد وبقوة، عقب ثورة 1952، وخلال أحداث ثورة يناير، أصبح قبلة المصريين الذين خرجوا في البداية على استحياء للمطالبة ب"العيش والحرية والكرامة الاجتماعية"، ليكتسب ذروته في 25 يناير 2011، عندما نجحت الجموع الحاشدة التي تجمعت فيه، كما بقية ميادين مصر، في إسقاط الرئيس الأسبق حسني مبارك، ليصبح في المرحلة التالية، محطة احتجاج لا تنتهي.. وليكون في 30 يونيو 2013 ركيزة أساسية أسهمت بقوة في الإطاحة بنظام حكم جماعة الإخوان، ورئيسها محمد مرسي. ورغم أن الميدان حمل اسم الرئيس الراحل أنور السادات عقب اغتياله عام 1981، إلا أن العامة ظلوا يعتبرونه "التحرير" وهو الذي يطل في جزء منه قرب نيل القاهرة الشهير، هو الأقرب لميدان رمسيس الشهير، الذي حمل اسم ميدان "الشهداء" تيمناً وامتناناً لأسماء من سقطوا في ثورة 25 يناير وما بعدها، كان مسرحاً لتراجيديا مصرية، اختلطت فيها دعوات الثورة، باتهامات التآمر، وتشابهت فيها وجوه المحتجين، مع من وجدوا في الميدان فرصة للتنفيس عن جرائمهم. حين يدخل الزائر للميدان، الذي بقي الأكبر والأفضل تخطيطا بين كافة الميادين المصرية، حيث يشبه في تصميمه ميدان شارل ديغول الذي يضم قوس النصر بالعاصمة الفرنسية باريس، يشعر أنه أمام قطعة فسيفساء من التاريخ المصري، تدلف منها إلى ميادين صغيرة وإن كانت بنفس الشهرة، طلعت حرب، رمز الاقتصادي الشهير، وعبدالمنعم رياض، شهيد حرب الاستنزاف، وباب اللوق، بكل تناقضاته وألوانه الشعبية الصميمة.. كل هذا يحتضنه المتحف المصري، قبلة السياح من جميع أنحاء العالم.. والذي بدأت قصة تأسيسه مع الاهتمام على يد العالم الفرنسى شامبليون بالآثار المصرية بعد فك رموز حجر رشيد. المتحف المصرى يتكوّن من طابقين خصص الأرضي منهما للآثار الثقيلة (مثل التوابيت الحجرية والتماثيل واللوحات والنقوش الجدارية)، أما العلوي فقد خصص للآثار الخفيفة (مثل المخطوطات وتماثيل الأرباب والمومياوات الملكية وآثار الحياة اليومية وصور المومياوات والمنحوتات غير المكتملة وتماثيل وأواني العصر اليوناني الروماني وآثار خاصة بمعتقدات الحياة الآخرى)، وكذلك المجموعات الكاملة (مثل مجموعة توت عنخ آمون فى اعقاب ثوره 25 يناير تعرضت للنهب والسرقة، حيث سرقت محتويات المتحف من آثار قيمة مما أدى إلى اختفاء عدد ضئيل منها. ولا ننسى دور الثوار والجيش فى حماية المتحف من أيدي لصوص حاولوا سرقة محتوياته، وبالقرب المجمع العلمي الذي أحرق على يد مجهولين أو بلطجية أو متآمرين كما تشيع الاتهامات. ويعتبر التحرير من الميادين القليلة في القاهرة ذات التخطيط الجيد الفريد، إذ يتفرع منه على شكل شعاع وإليه عدد ليس بالقليل من أهم شوارع وميادين العاصمة المصرية القاهرة، منها شارع البستان الذي يضم أهم مراكز التسوق في وسط القاهرة بالإضافة إلى العديد من البنوك ومؤسسات الدولة مثل وكالة أنباء الشرق الأوسط التي تقع في تفرع شارع هدى شعراوي المتفرع من شارع البستان، فضلا عن مسجد عمر مكرم، كما يقف شامخا وسط الميدان مجمع التحرير الذي يضم فروعا لأهم الوزارات والمصالح الخدمية، والذي يستضيف يوميا آلاف الزائرين من القاهرة والمحافظات الإقليمية، وهو يعتبر أثرا تاريخىا من تاريخ مصر قبل ثورة يناير كان يتسم هذا المجمع بالحيوية والأجواء الصاخبة لكن تجري الرياح دائما بما لا تشتهى السفن، لقد حرق المجمع على أيدي مرتزقة، وأخيرا جراج التحرير للسيارات الذي بات معلما مهما لفك أزمة الاختناق المروري في العاصمة. وعلى رغم أن ميدان التحرير أكبر ميادين القاهرة إلا أنه لا يعد أهمها على الإطلاق فيسبقه ميدان رمسيس الذي يضم محطة مصر، وأهم شبكة لوسائل المواصلات بالعاصمة، كما يسبقه ميدان العتبة من حيث الأهمية إذ يعد المركز التجاري الأول في القاهرة. في التحرير، تجتمع كل تناقضات المشهد السياسي والاجتماعي المصري، بكل ألوانها وأطيافها، فمثلما كان قبلة للنخبة التي نزلت مع الثوار في 25 يناير، أو في 30 يوليو، لا بد أن يكون هناك حديث بلا حرج، عن إهمال يطفح بسلوكيات الباعة الجائلين، الذين رأوا فيه مورداً للرزق، وبالقرب منه، وخاصة ناحية ميدان عبدالمنعم رياض، حيث كوبري 6 أكتوبر، يكون أسفل الكوبري ملجأ اضطرارياً لمن يصفهم المصريون ب"أطفال الشوارع". من أحمد بوجي، بائع الذرة المشوية، إلى حمدي كفتة، الذي يجوب الميدان طولاً وعرضاً حاملاً صينية شاي للراغبين، إلى "أم نعيمة" التي تجلس قرب السور الحديدي، وهي تمد يدها للمارة طلباً ل"حسنة قليلة"، فيما صبية وأطفال يلهون ببراءة قرب أخشاب تشيد من خلالها شركة مقاولات مشروعاً ما. أسلاك شائكة، تعود بين الحين والآخر، مدرعات وعربات عسكرية، وجنود يتأهبون لمواجهة أي طارئ، في ظل تصاعد عمليات العنف التي لا تغادر مسرح الميادين والشوارع المصرية، فيما ظلت محطة المترو مغلقة حتى إشعار آخر، يفتح الله بها على مصر، عهداً جديداً يتجاوز كل المحن، والمخاوف، والإحباطات.