عادة ما يميل الشباب إلى أفلام (الأكشن) الحافلة بالمخاطرة واستعراض القوة. كالدور الذي يؤديه توم كروز في (مهمة مستحيلة). وقبل عقدين كان الشبان مفتونين بشخصية (جون رامبو) المجند الغاضب العائد من حرب فيتنام إلى بلاده الولاياتالمتحدةالأمريكية. وكان كثير منهم ينبهر بخوارق سيلفستر ستالون في هذا الدور. ولست أسعى من وراء هذه المقدمة إلى تسجيل اعتراض على ذلك التعلق، فللناس فيما يشاهدون ويسمعون مذاهب. ولكل مرحلة من مراحل العمر اهتماماتها. ولولا اختلاف الأذواق لكسدت السلع. أردت فقط أن أتأمل واقعا ما زال يعيد نفسه بصيغ مختلفة، وأن أنقل صورة مصغَّرة عن الاهتمام بالعرضي والزائل. في الماضي، لو سألت شابا من أولئك الذين يملأون الشوارع صخبا بدراجاتهم النارية، أو أولئك الذين يشيعون الفوضى في الطرقات بعد فوز المنتخب، أو الذين يتسكعون بسياراتهم وصوت الأغاني الصاخبة يملأ الطرقات. أقول: لو سألت أحد هؤلاء عن (جون رامبو) لأمطرك بوابل من التفاصيل. لكنك لو سألت عينة عشوائية منهم عن (رامبو) آخر هو الشاعر الفرنسي الشهير آرثر رامبو، فمن المرجح أن يصحح لك أحدهم الاسم بقوله: "جون رامبو.. وأنت الصادق"! وقد يضحك بعضهم مما يظنه "أمية فنية" ويصحح لك الاسم من جديد، وسيزودك آخر بتفاصيل أكثر عن (جون) وليس (آرثر). ستقول: ولكني، يا شباب، أسأل عن آرثر رامبو الشاعر. عندئذ سوف يتبرأ الشاب من معرفته بهذا الاسم، وقد يضيف أحدهم من قبيل الاستخفاف قائلا: "سلّمْ لي عليه"! وهي إجابة سمعتها مرتين خلال عام. واخترتها مرة عنوانا لأحد مقالاتي: "ثقافة سلّمْ لي عليه". وفي تلك الإجابة شيء من الاستخفاف بالسؤال، وربما التباهي بعدم المعرفة، وكأن الجهل ميزة وليس عيبا، فبعضهم لا يعرف، ويعرف أنه لا يعرف، لكنه لا يحاول التقدم شبراً واحدا على طريق المعرفة. غير أنّ هذا شأن الثقافة في كل زمان ومكان. ذلك أن نجوم السينما والرياضة، سواء كانوا عربا أم فرنجة، أشهر من الشعراء والكتاب والمفكرين، وهو أمر لا يختلف فيه اثنان. ومع أننا أكثر الناس استيرادا واستهلاكا لكل ما هو مادي قادم من وراء البحار، فقد يقول قائل: ما لنا وللأفكار والأسماء المستوردة. يقولها وهو لا يعرف شيئا عن أي إبداع محلي أو عربي "غير مستورد"! فوق ذلك فإن الشاب الذي يعرف أدق التفاصيل عن ممثل أو رياضي أجنبي يجهل أسماء أدباء وكتاب ومفكرين يشاركونه العيش في مدينة واحدة. فما بالكم بشاعر أو كاتب أو مفكر قادم من الأقاصي. لقد ساهمت العولمة في نقل كل ما هو استهلاكي وعرضي وزائل، وبقي حضور ما هو جوهري وجمالي متواضعا. ليس بالضرورة أن يطلع المرء على التراث الأدبي أو الفكري لهذا الكاتب أو ذاك لتكتمل ثقافته، ولكني اخترت هذا الاسم لأقارن بين (رامبو) وآخر، أحدهما مألوف لدى جمهور كبير من الشباب، والآخر نكرة.. وسيظل كذلك. غير أن إلقاء اللائمة على هذا الجيل ليس إلا شكلا من أشكال الحذلقة. فماذا يُنتظر من شاب أنهى المرحلة الثانوية، بعد أن حُشِي رأسه بمواعظ بلاغية عن المعاني والبيان والبديع، وكلام عن المدارس الأدبية لم يتغير منذ مطلع الستينيات من القرن الماضي؟ معلومات لا تضيف إلى ثقافة الشاب شيئا ذا قيمة فنية، ومع ذلك تتبخر بعد أيام قليلة من انتهاء الاختبارات! * متخصص في الإدارة الدولية المقارنة