منذ سنوات علمتني الحياة ألا أحاول إرضاء الناس. قلة قليلة من الذين يستحقون محاولاتي وبذل الجهد لإرضائهم وهم الأقرب والأحب لأن حبهم ليس ناتجا عن علاقة قابلة للزوال، بل هو الحب الذي تشربته دماؤنا قبل قلوبنا وعقولنا. ونحب بالتأكيد قلة من الأباعد لأنهم يشبهوننا بطريقة أو بأخرى، أو لأننا نجد فيهم ما نفتقده فينا أو ربما وجدنا أن صحبتهم تؤنس القلب والعقل. أما البقية الباقية من الناس على كثرتهم فلا يهمنا رأيهم إن أحسنوا أحسنا وإن أساءوا أعرضنا عنهم، وقد يحكمنا وإياهم قانون (عين الرضا) الذي صنعه (الشافعي). هذه التصرفات تثير كثيراً من الناس لأنها تتجاوز حدود إبداء الرأي إلى فرضه عليهم، وهذا الأمر من أكثر ما يولد لدينا المخاوف الاجتماعية التي كبلتنا بشكل جماعي، فخوفنا من الناس وكلام الناس يعلو في كثير من الأحيان على خوفنا من الله ورغبتنا في نيل رضاه ومغفرته. وعين الرضا عن كل عيب كليلة وعين السخط تبدي المساويا ولست بهياب لمن لا يهابني ولست أرى للمرء ما لا يرى ليا فإن تدن مني تدن منك مودتي وإن تنأ عني تلقني عنك نائيا كلانا غني عن أخيه حياته ونحن إذا متنا أشد تغانيا أما البيت الأول: فرغم صحته إلا أننا نقاومه كثيراً لأننا نحاول أن نكون موضوعيين في أحكامنا بعيداً عن الرضا والسخط، والثاني: مناطه الاحترام .. احترام الأشخاص واحترام الحدود بينهم، والثالث: لا يتحقق كثيراً، فالأقرب إلى الحقيقة هو قول نورة الحوشان : اللي يبينا عيت النفس تبغيه واللي نبيه عيا البخت لا يجيبه هذا إذا أشعنا المعنى على الجميع ولم نحصره في محبوب واحد، فهناك من يبذل كل طاقته للتقرب منا ولكن النفس لا تقبله لسبب معلوم أو مجهول وربما لا يرتبط السبب به مباشرة، بل بسبب ظروف المعرفة والعلاقة، ويهمني جدا البيت الأخير : كلانا غني عن أخيه حياته ونحن إذا متنا أشد تغانيا وأكثر ما يسيء للعلاقات الإنسانية هو محاولة التوجيه المباشر وغير المباشر من أشخاص لا تربطك بهم صلة تستحق هذا الادعاء بالاهتمام لدرجة تجعل أحدهم يتخيل أنه المدرس وأنت الطالب الذي عليه أن يستمع للدرس ويستجيب ويقوم بأداء الواجب وتقديمه إليه. ولهذا حين عرفت نفسي في موقع التواصل الاجتماعي (تويتر) بجملة (صلتي بخالقي ليس للمخاليق شأن بها) اعتقدت أنني أريحها من يتوهمون أنهم يحملون هم مصيري إذا عبرت برأي لا يناسبهم أو توجه لا يرضيهم ومع هذا لم تكن تلك العبارة كافية لبعضهم وراحوا يكيلون السب والشتم والتوجيه والنصح والإرشاد بطريقة غريبة يحاولون منها اقناعي بأنهم يهتمون لأمري أكثر مني !! وهذا أمر يتكرر مع الجميع، وهذه التصرفات تثير كثيراً من الناس لأنها تتجاوز حدود إبداء الرأي إلى فرضه عليهم، وهذا الأمر من أكثر ما يولد لدينا المخاوف الاجتماعية التي كبلتنا بشكل جماعي. فخوفنا من الناس وكلام الناس يعلو في كثير من الأحيان على خوفنا من الله ورغبتنا في نيل رضاه ومغفرته، وكأنهم سينوبون عنا في تلقي الجزاء من الله ! إن خوفنا منهم يجعلنا نجاملهم على حساب أنفسنا فنترك ما يرضينا سعياً وراء ما يرضيهم، ونتخلى عما نحبه لأنهم يكرهونه، وبالتالي ملأت هذه العلاقات غير السوية حياتنا بالمظاهر والتعلق بالسطحيات والتفاهات وكلمات المجاملة التي - رغم لطفها - لا تلامس القلوب فتأتي جافة فتُتَقبل بجفاف وكأنها تبادل مصالح لا تبادل عواطف. ولهذا لا تجهدوا أنفسكم بإرضاء من لا يستحقون منكم سوى حسن التعامل وعيشوا لأنفسكم ومن تحبون فقط فإذا كان رضا الناس غاية لا تدرك فلماذا نجهد أنفسنا من أجل الحصول عليها ؟ * عضو هيئة التدريس بجامعة الدمام