كان سؤالي في المقال السابق: من الذي يريدهم؟ وأعني تلك القلة من المذيعين والمذيعات والممثلين والممثلات الذين جعلتهم وسائل الإعلام يصمون آذاننا بكثير من السفاسف. وهذا السؤال يأخذنا إلى اتكاء الإعلام على قاعدة (هذا ما يريده الناس)، وهذه كذبة كبرى كذبتها وسائل الإعلام والمؤسسات الفنية؛ لأنهم حين أفلسوا من الأفكار الجيدة رموا المشاهدين بتهمة أنهم يطلبون هذا! كيف يطلبونه وهم لم يعرفوه إلا حين قدمته لهم تلك الشاشات، وكرروه كثيراً جداً سواء في البرامج أو المسلسلات تفاهة تتبعها تفاهات وألفاظ سوقية وأساليب شوارعية، حتى أن البرامج صارت تحاكي أسوأ ما طرحه الناس في فيديوهات خاصة بهم ونشروها عبر برنامج (kik) بحماقة ما بعدها حماقة! وهي في الأصل ما سجلها أصحابها إلا من باب تخفيف الدم، على طريقة ما عهدوه من قبل ومالوا إليه بعد أن صادف ضعف وعيهم ما يغذيه إعلامياً. ثم قام معلمهم بتقليدهم، وهذا بالفعل إفلاس كانت من نتائجه شيوع الأسلوب السوقي الذي يسمع ويرى وكأنه الحقيقة الوحيدة في يوميات الناس، فما عاد للذوق العام مكان بين الناس، وما عاد للأخلاق مكان بحجة النكتة التي صنعتها تلك الممثلة أو افتعلها ذلك الممثل المهرج، ومن هنا صار تقليدهم سمة ملازمة لكثير من الناس، وللأسف في كل المراحل الزمنية من الأعمار وهذا التقليد تفشى في كل تفاصيل الحياة، وليس في المفردات أو الحركات أو الأسلوب الكلامي. وهذا ما زاد الطين بلة، وشجع أولئك على التمادي، فصار أسلوب الردح يقدم على الشاشات ويراه ويسمعه الجميع. بالأمس كانت إحدى فقرات البرنامج الشهير مجرد رقصة لفتاة قدمتها بقولها: (اللي مو عاجبه يطفي التلفزيون)! ثم وضعت كفها المقبوضة على كفها المبسوطة لتفركهما ببعض - وهذه حركة لإثارة غيظ من يواجهك - بأسلوب خال من كل ذرة أدب، وليس له أبداً ما يبرره، ناهيك عما يبرر وجود الفقرة أصلاً وهي فقره لا تحمل نكتة للإضحاك ولا فكرة ولا رسالة من أي نوع، إلا في حالة واحدة وهي أن تلك المؤسسة الإعلامية الضخمة بقضها وقضيضها ترد على منتقديها بهذا الأسلوب!!! وبغض النظر عن التهم المتبادلة بين الإعلام ومنتقديه، لا بد للمؤسسات الإعلامية ألا تعرض عن كثير من الانتقاد الحق الذي يوجه إليها، لا بد أن تدرك أن غزو المشاهد من خلال جيبة في البرامج ذات التصويت الذي يدر عليها بالملايين أو من خلال الإعلانات التي تستخف بقدرته على التمييز، مختلف تماماً عن غزو أخلاقه ووعيه الاجتماعي بفداحة الخطر الناجم عن التهاون بكل ما ينمي العقول والوعي ويقدرهما. مصيبة أن تتحول تلك المؤسسات التي يعول عليها كثيراً في التنمية إلى معول يهدم كل شيء في سبيل المزيد من المال فقط! إن كثيراً من البرامج المميزة تقدم في أوقات انشغال الناس عن الشاشات، وكأن ما هو مفيد يجب أن يوارى ويدس بعيداً عن الناس؛ حتى لا يبحث عنه إلا من يريده فعلاً. وما المانع أن تقدم الأفكار القيمة وهي محفوفة بالبساطة دون إسفاف أو ابتذال يعلن عن نفسه في سخافة هذا وسلاطة لسان ذاك، واستغلال أولئك الذين صنع منهم الإعلام نماذج يحتذى بها بقصد أو دون قصد. وهذا الأمر لا يشكل نقطة في قائمة ما يأمله الناس منه، وعلى رأس ما تتوقعه المجتمعات الإسهام في بناء وعي اجتماعي رفيع المستوى. وعي يمس كل جوانب الحياة؛ ليصنع أجيالاً قوية، تتكئ على الفكرة، لا على النكتة التي تسببت بموت عشرات الأفكار. عضو هيئة التدريس بجامعة الدمام