كان أشبه ما يكون باستفتاء دولي عفوي ذلك الذي حدث في الرياض عشية انتشار نبأ وفاة زعيم الأمة والقائد التاريخي والاستثنائي عبدالله بن عبدالعزيز رحمه الله، وتنصيب سليل مدرسة الملك المؤسس طيب الله ثراه، ومستشار الملوك، والركن الثابت في منظومة الحكم السعودي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز أيده الله بنصره وتوفيقه عندما تداعت كل قيادات وزعامات العالم، وتقاطرت الوفود الكبيرة من كل أصقاع الأرض للعزاء في فقيد الانسانية، وتأكيد أواصر العلاقة مع الزعامة السعودية الجديدة. لم تكن تلك الوفود التي غصّ بها مطار القاعدة، وردهات قصر اليمامة مدعوّة من أحد، ولم يكن هنالك من يُحرّضها على الحضور إلى الرياض، بعضها قطع التزاماته مع مؤتمرات دولية، والبعض الآخر ترك ارتباطات رسمية كانت مبرمجة مسبقا لتجتمع، ويلتئم شملها في العاصمة الرياض، ومن بينها أيضا من يختلف ربما مع الرياض، لكنها تداعت للمجيء كلها مدفوعة بذلك التقدير الدولي المهيب والفريد للقيادة السعودية التي فرضتْ نفسها على العالم كإحدى أهمّ واجهاته الحضارية والإنسانية، وإحدى أهم القيادات التي عملتْ وتعمل على ضبط إيقاع السلم الدولي، لتأتي إلى العاصمة السعودية بشكل عفوي لا يُمكن تفسيره بأي صيغة سوى احترام العالم القريب والبعيد لهذه الدولة قيادة وشعبا، نتيجة لتراكمات طويلة وأصيلة من المواقف العادلة والثابتة، ونتيجة للرقي حتى في الاختلاف، ونتيجة للشهامة في الوقوف مع الآخرين في مشارق الأرض ومغاربها ساعة المحن. كانت قامة الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز حتى وهو في قبره شامخة في أذهان تلك القيادات التي جاءتْ لتصوت من خلال الحضور إلى بلاده على مكانة هذا الوطن وعلى سعة نفوذه، وعلى احترام العالم بأسره لتلك المكانة والنفوذ التي لم تتحقق إلا عبر إرث ضخم من المواقف النبيلة التي تركها الزعيم الراحل على مستوى المجتمع الدولي، ولم تتحقق أيضا إلا بثقة العالم بخلفه الكبير في الزعامة، وقدرته على إتمام هذا البناء السياسي والحضاري بما يضيف للإنسانية، ويحفظ فيها ميزان الثوابت الأصيلة التي تحمي الدول الوازنة من الانهيار، أو السماح بامتداد تلك الفوضى العارمة لا سمح الله من الاتيان على إقليم شديد الحيوية للعالم، يُشكل عصب حياته، وضمانة استقراره. لقد قدّمتْ تلك الصورة المهيبة التي شهدتها الرياض على مدى الأيام القليلة الماضية صك الاعتراف الدولي بمكانة هذا الوطن وزعاماته، وسجلت بشهادات كل قيادات العالم له ما يستحقه كوطن عظيم، سواء في قيادته، أو في شعبه الأبي الذي قدّم هو الآخر صورة نموذجية للشعب الواعي الذي يلتحم مع قيادته، فيسارع لمغالبة أحزانه بفجيعة غياب زعيمه الراحل، بالمبادرة بمبايعة مليكه في أهدأ وأنبل عملية لانتقال السلطة، وبشكل يفوق في مثاليته ما يحدث في معظم بلدان العالم، ليضرب المثل والمثال على متانة تلك اللحمة التي تربط هذا الشعب الأصيل بقياداته، وليؤكد للعالم رغم كل تلك الظروف الاقليمية الحادة أنه مُحصن عن كل العلل التي عصفتْ بسواه، مُحصّن بإخلاص القيادة لشعبها، وبوفاء الشعب لقيادته، وتثمينه الكبير لمنجزاتها، عبر ملحمة تاريخية قلّ نظيرها في هذا الزمن المضطرب. وأخيرا.. من حقنا أن نتساءل ونحن نرفع رؤوسنا في هذا الوطن الكريم: هل سبق وأن تمّ مثل هذا الاستفتاء الدولي والشعبي لأي دولة في العالم، وفي أي وقت من الأوقات، وبمثل هذه الصورة المبهرة؟، هل سبق وأن اتفق الاصدقاء وحتى الخصوم على توقيع وثيقة مكانة ونفوذ بمثل هذا الحجم وهذا الاستفتاء الدولي الذي يُبيّن مثاقيل هذه الدولة ووزنها الراسخ بين أمم الأرض؟، إنه المُنتج الطبيعي والحتمي لسمة العدالة التي تميّزتْ وتفردتْ بها هذه البلاد على مدى تاريخها العريق.