الريحُ تنأى.. عزاءً أيُّها القَصَبُ! لن نسمعَ النايَ بعد اليومِ ينتحبُ يا شاعرًا هرولتْ في مرجِ خاطرِهِ قصيدةٌ/ مهرةٌ يعدو بها الخَبَبُ يُزَيِّنُ الأرضَ من أصفى معادنِها فليسَ ثمَّةَ إلا الفكرةُ/ الذَّهَبُ ما خَطَّ بيتينِ كي يغفو بظِلِّهِما إلا وقافيتاهُ: الهمُّ والتَّعَبُ في الذكرى الرابعة لرحيل شاعر التضاريس وسيِّد البيد الشاعر الكبير (محمد الثبيتي) تغمَّده الله برضوانه وجنانه.. أعيد ما قلته سابقًا إنَّ الشعرَ قد خسر الإقليم الأكبر الممتدّ باتساع الإبداع والنجوميَّة والألق من جغرافيَّته التي تنكمش في عالم الفنّ مقابل الأجناس الفنية الأخرى. هو (محمد الثبيتي) وكفى.. هو الشاعر الذي رمى في ماء المجازات الراكدة (حجرا حداثيا) وأطلق النهر باتجاه مجراه الجديد. فمنذ أن تفتَّحنا على أبجديات الشعر واسمه يرنُّ في مسامع المشهد الشعري رنينا باذخا مثل رنين قنطار من الذهب على رخامة فاخرة. كنَّا نراقبه مراقبة العاشقين للقمر فنسهر معه وهو (يصبُّ لنا وطنا في الكؤوس)، ونصغي إلى (هدير أباريقه) وهو يعزف لنا نوتات الوله والحنين، ونستمتع بأضوائه وهي تغسلنا في بحيرتها من تعب الحياة. كبرنا على دندنات ألحانه وشربنا من موسيقى تفاعيله ونحن لا نزال على مسافة منه لا يملؤها سوى أشواقنا التي لا تكفُّ عن التوق لرؤيته. كانت مشاركتي بمعيِّته في أمسية شعرية بنادي المدينة المنوَّرة الأدبي قبل عقدين من الزمن.. كانت تلك المشاركةُ صاعقةً بالنسبة لي على كلّ المستويات. لم أعرف كيف يمكن للتلَّة الصغيرة أن تقف بمحاذاة الجبل الشامخ وترفع رأسها، وكيف للجدول أن يهمس في حضرة المحيط الهادر. لم أعرف كيف أواجه ذلك الكائن المجازيّ الذي اخترق وجداني بشفافيته على الورق، وكيف أصافح تلك اليد التي أبدعت كائنات عجيبة من أمشاج الكلمات ونطاف الأفكار. وعندما التقينا وجها لوجه، اكتشفتُ أنّ القمر ليس من حجر كما يزعمون، وإنما من ألقٍ مضاعفٍ يفيض على الألق الذي يبعثه من بعيد. عندما التقينا، اكتشفتُ كيف يمكن للشعر أن يتجسَّد في بدويٍّ صقلته الصحراءُ بالقيم، وزمَّلته أنوار (غار حراء) بدثار من الصفاء والنقاء، وأن يخلع عليه ملامحه ويزرع فيه وجدانه ويسكب فيه أحلامه ويصوغه في أحسن تقويم إنساني. الشاعر محمد الثبيتي الذي كان يجمع الريحَ بيديه ويُطلِقها في فضاء الشعر كي يرفرف عَلَمُ القصيدة عاليا.. هذا الثبيتي الذي خسرناه وجودا بيولوجيًّا، هو ذاته الثبيتي الواقف الآن عَلَماَ على جبل القصيدة وقد زادته عاصفةُ الموت خفقانا وهو ثابتٌ على قمَّته. إِيهٍ أبا (يوسفٍ).. والأمسُ غَلَّقَهُ بابُ الغيابِ لكيْ لا يخرجَ العَتَبُ عُذرَ القبيلةِ إنْ خانتْ برائِدِها حتَّى بكى في القلوبِ الماءُ والعُشُبُ ها أنتَ تعويذةٌ نحمي البيانَ بها إذا استشاطَ عليهِ الخوفُ والرَّهَبَ