الأصل في الفتوى أنها اجتهاد فقيه قابل للصواب والخطأ جاء في صحيح البخاري عن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر». فاختلاف الفقهاء في مسألة ما يشير بوضوح الى أن تلك المسألة من مواطن الاجتهاد التي يحتمل فيها الفقهاء اختلاف بعضهم بعضا، وعد الأصوليون اختلاف الفقهاء سببا للتيسير على المكلف، والتيسير أصل في سلامة الحكم وهو من أسباب استيعاب الشريعة للنوازل المتغيرة باختلاف الأزمنة وتغير ظروف المعيشة والثقافة وحاجات المجتمع. ويعتبر التوقف عن الاجتهاد وتوقف النقد والمراجعة والتصحيح من سمات التراجع العلمي، والمتتبع لتاريخ المدارس الاجتهادية والفقهاء يتبين له عدول كثير من الفقهاء عن آراء مشهورة لأسلافهم، بل وعدولهم عن آراء خاصة سبق لهم أن استدلوا عليها وتبنوها وأفتوا بها ودافعوا عنها. وأبرز ما يذكر هنا رأي بعضهم في أشكال الممارسة السياسية الحديثة، وفي التعاملات المصرفية والتأمين، وفي السفر إلى غير بلاد الإسلام، وعمل المرأة، وكثير من المسائل المعاصرة التي اختلف حكمها لأسباب معتبرة. إن اختلاف الفتوى هو السياق الطبيعي بين العلماء؛ لأسباب كثيرة منها ما يتعلق بثبوت النص وصحته، ومنها ما يتعلق بفهم النص ودلالته، ومنها ما يتعلق باختلاف الظروف المحيطة بالمفتي أو المستفتي فضلا عن اختلاف النازلة وتجدد صورها والظروف المتعلقة بها وبيئاتها. فتحريم السفر إلى بلاد الكفار مثلا، استدل المانعون له بنصوص من السنة، بينما لاحظ المجيزون اختلاف الظرف الذي وردت فيها تلك النصوص عن ظرف العالم الراهن، واستدلوا بالتجربة التي تثبت بوضوح أن المسلمين الذين سافروا إلى بلاد الكفر قد حافظوا على دينهم ولم يتحولوا كفارا، بل على العكس كان لكثير من المسلمين عبر أسباب بقائهم المختلفة أثر ايجابي في تلك البيئات. إنه من الواضح أن هناك من نظر إلى مقاصد النصوص لا ظاهرها، ولو يلتفت لكونها صريحة التحريم في نظر من حرم والآخرون عملوا بعكس ذلك ولكل رأيه. إن الفقيه كسائر الخلق يتأثر ويتفاعل مع محيطه، يتأثر بظروفه المادية والثقافية، وبما يجيش في صدور الناس حوله من هموم وتوجهات وانفعالات ومصالح ومصادر قلق ورغبات وتطلعات، وما في نظامهم الاجتماعي من أعراف وتقاليد وأنماط معيشة. وهو كغيره يتعرض لعوامل الجذب والطرد في داخل البيئة الاجتماعية، كما يتعرض لمصادر الضغط وردود الفعل، سواء التي تتولد من داخلها أو تنعكس عليها من الخارج. ويضاف لهذه العوامل الشخصية أنواع الانتماء المختلفة ومستوى المعيشة ومصادر التعلم والثقافة ومقدار المعلومات والمعارف المتوفرة له والتجربة الشخصية في الحياة. كل هذه العوامل لها تأثير على رؤية الفقيه للموضوعات وظروفها، وبالتالي على اختياره القواعد الشرعية التي يطبقها على الموضوع ولهذا قد نجد آراء الفقهاء متباينة في المسألة الواحدة. وهذا الأمر يثير تساؤلا هو إذا كان رأي الفقيه قابلا للتأثر على النحو المشار له، فهل يمكن القول: إن حكم الفقيه مطابق لحكم الله، أم هل يصح أن نطلق عليه صفة (حكم الله) أو (حكم الدين)، أم يبقى مجرد رأي شخصي محترم مثل سائر النظريات والآراء العلمية التي يلتزم بها المتلقي أو يعرض عنها بحسب اختياره؟. بلا شك لا يمكن أن يطلق على اجتهاد فقيه بأنه حكم الله ولا مطابقا لحكم الله لاحتمال الصواب والخطأ فيه، أخرج الإمام مسلم في الصحيح عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال كان رسول الله إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ....إلى أن قال: وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا؟. كما أن هذا الاختلاف لا يلزم منه تصور اضطراب مصالح الناس وحقوقهم فلا بد أن يكون هناك على الدوام حاجة لأحكام ملزمة، كأحكام القضاء وما يصدر عن جهات سيادية في الدولة إنما المهم في هذه الأحكام أن تكون نزيهة بعيدة عن قصد الإضرار واحتمالات الخطأ الشخصي قدر الممكن. * باحث ومستشار بمركز علوم القرآن والسنة