النوايا الحسنة تهزم الظنون السيئة، والمشاعر الرطبة تكسر الانفعالات الجافة.. وحين يتشكل العقل من الرشد يطمئن الفؤاد.. أحيانا تقدم النصيحة في قوالب اللغط.. وتدور في متاهات الجدل.. فيمكث الغموض، وتتكاثف الحيرة حول الأفهام.. لا يشك احدنا أن ثقافة التناصح النافع والمشروع هي قيمة أخلاقية دينية سامية ويحتاجها أي شخص منّا لكي يعيش الإنسان بها في أرجاء حياته.. في خياراته الخاصة.. تعاملاته.. أهدافه.. قراراته.. خططه.. عزائمه.. رغباته كل ذلك تجعله النصيحة النقية الحكيمة بإذن الله وتوفيقه مطمئنا بصائب الرأي، وجميل الإرشاد، وجليل الاستشارة.. فتتحقق له الراحة، والنتيجة الكريمة. لكن من الناس من هو حثيث النصيحة، وحفيٌ بها.. ولعل النوايا الطيبة هي ما تسبق المقصد من كل نصيحة يلقيها هنا وهناك.. ولا يكاد يمر مجلس من المجالس إلا ويقذف كمّا هائلا من النصائح في كل مجال وموضوع سواء كان عارفا بكوامن الأمور وصحة ما يقول، أو جاهلا بكل هذا.. لكن يبدو أن الأمر قد انقلب إلى هوسٍ بالنصح مهما كان نوعه.. فتجد أحدهم ناصحا في السلب كما هو في غيره.. ودليلا للسوء كما هو في ضده.. ومفتاحا للشر كما هو في خيره.. لا يهمه إلا أن يكون له الصدارة في تقديم الخيارات والنصائح إلى الآخرين على هدى كانت، أو ضلال.. لذا كانت هناك نصائح تهدم المصالح، وتقوّض المنافع، وتهدم الأمنيات، وتعّطل الأحلام بسبب أن الناصح لا يدرك معنى لنصيحته، ولا يستشعر ظرفها، ولا يحيط بقيمتها، ولا يدرك مناسبتها لحالة ما.. فبعضهم يجعل من تجاربه الخاصة، وخياراته الشخصية، وحلوله الفردية، وقراراته الذاتية مصدر نصائحه، وهي المعزز لطرحها.. فلا يفهم هنا أن معطيات الحياة، وظروفها، وأحوالها، وأبعادها لدى الآخرين مختلفة تماما عنه.. تجد زوجا أو زوجة يسارع أحدهما في النصح لأخرى بإرشاد وتشديد من خلال قناعاته ومدركاته في حياته الزوجية، ويحاول بجلبة أن ينقل تجربته الشخصية إلى واقع آخر مختلف.. ويحث الآخر على أن يتبع ما اتبعه في حياته بدون انتباه لما قد يسببه من أذى، أو مزيد من الاشكالات.. وآخر يملأ المجالس نصائح في كل شيء.. حياة.. دين.. تجارة.. تعليم.. زواج.. طب.. صحة.. طعام.. وسفر.. ومصدره مواقفه الذاتية، وسلوكه الشخصي، وتجربته الخاصة فيمرر نصحه لأصدقائه «افعلوا كذا فأنا فعلت وصار معي كذلك، وجربوا كذا فأنا جربت وحصل معي ذلك، وقولوا كذا فأنا قلت وتحقق لي ذاك»، وآخر يعكس فشله في أمر ما بنصح الآخر الناجح، المستقر، المطمئن، الواثق فيحبطه في حياته سواء بقصد أو بدونه فيقول له: «اعمل كذا.. وافعل كذا.. وغيّر كذا.. وبدلّ كذا.. وترى كذا وكذا، ولا يغرّك لو حصل كذا».. فلا يصمت ويدعو له بالخير.. وإن نطق لا يحاول أن يعزز الجانب الايجابي لدى هذا الناجح، أو على الأقل يبتعد عنه. النصح النافع أمر سامٍ، ومطلب إيماني كريم فهو من التعاون على البر، ومن الأمر بالمعروف فما ينفع الناس هو النصح الايجابي الواعي والحكيم.. فقيمة النصح التي تبنى على خيارات فردية مشتتة، ومختلة، وعشوائية بلا وعي ولا فكر ولا فهم هي قيمة خاسرة، وسيئة، وسلبية. ختام القول: يبقى مع الفوضى في النصح أن هناك نصائح لا يؤخذ بها.. وإن أردنا النصح لأحد ننتظر طلبه، أو نتفهم واقعه وقناعاته، وطريقة تدبير حياته فلا حياتنا تطابق حياة الآخرين، ولا ظروفنا تماثل ظروف الغير، ولا أفكارنا تشابه أفكار البقية، ولا طاقاتنا توازي طاقات غيرنا.. يجب أن نحذر حين ننصح ونقرأ مشهد الشخص ونقدم مصلحته وقناعاته على مبادرتنا وقناعاتنا، ولنقلل من عشوائية النصح في كل مجال، وبأي طريقة، وفي أية حال..