تمنع جموع الحجيج بعرفة من الخروج لمزدلفة حتى تغرب الشمس، ثم ينطلقون في لحظة واحدة بعد الغروب بتسارع وزحام يلاقي فيه الأقوياء من المشقة الكثير، فضلا عن النساء والأطفال وكبار السن لاختناق الطرق وتكدسها وتعطل السير. كما تعاني الجهات المنظمة وأفرادها جراء ذلك عبئا لا يستطاع؛ ومع ذلك لا يصل بعض الحجاج لمزدلفة إلا بعد طلوع الفجر ، ويوضح صحة ذلك أن الاختناق والتكدس لا نجده في الدخول لعرفة لتفاوت أوقات مجيء الحجاج إليها واتساعه من أول النهار حتى آخر الليل. والعمل بوجوب الوقوف بعرفة مع جزء من الليل فيه إلزام للعموم برأي محل اجتهاد، والصواب عدم وجوب الوقوف بعرفة لجزء من الليل مع ما يدرك من النهار. لحديث عروة بن مضرس أنه حج على عهد رسول الله فلم يدرك الناس إلا وهم بجمع قال: فأتيت النبي (صلى الله عليه وسلم) فقلت : يا رسول الله، إني أنضيت راحلتي وأتعبت نفسي والله إن تركت من جبل إلا وقفت عليه فهل لي من حج ؟ فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) : (من شهد معنا هذه الصلاة، صلاة الفجر بالمزدلفة، وقد كان وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا ، فقد تم حجه، وقضى تفثه).. حديث صحيح. قال ابن عبدالبر : هذا الحديث يقضي بأن من لم يأت عرفات، ولم يفض منها ليلا أو نهارًا فلا حج له، ومن أفاض منها ليلا أو نهارا، فقد تم حجه. وعن عبدالرحمن الديلي قال شهدت رسول الله وهو واقف بعرفة وأتاه ناس من أهل نجد فقالوا يا رسول الله كيف الحج فقال: (الحج عرفة فمن جاء قبل صلاة الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه، أيام منى ثلاثة أيام فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه، ثم أردف رجلا خلفه فجعل ينادي بهن) .. حديث صحيح. فمن وقف بالليل دون النهار أو بالنهار دون الليل فوقوفه صحيح؛ ولا شيء عليه على الصواب وهذا هو الصحيح من مذهب الشافعي، وأنه لا دم لمن وقف بعرفة مقتصرا على النهار. فالصواب ترك إفاضة الحجاج من عرفة إلى مزدلفة متاحة نهار عرفة لمن شاء لحل تلك المشقة وعدم منع الحجاج من ذلك. وكذلك القول بوجوب المبيت بمزدلفة أوقع ضيقا كبيرا بخروج عامة الناس من مزدلفة بعد صلاة الفجر ؛ والمبيت بمزدلفة قال بسنيته عدد من فقهاء المالكية، والشافعية، وهو رواية عن أحمد وقول جمع من المتأخرين وهو الصواب لما روي عن أَسماء أنها رمت الجمرة، ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها.. أخرجه البخاري. وعن عائشة أنها قالت أرسل النبي بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت.. صحيح أخرجه أبو داود وغيره، وكان ابن عمر يقدَّم ضعفة أهله .. أخرجه البخاري. ومبيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فعل للتأسي لا الوجوب ويتأيد بحديثي ابن مضرس والديلي المتقدمين، وهكذا المبيت بمنى يوم التروية وأيام التشريق، وقد رخص فيه رسول الله للرعاة والسقاية ولم يوجب عليهم دما كما في من كان به أذى من رأسه. كذلك القول بعدم جواز رمي جمرة العقبة قبل فجر يوم النحر حصل به تكدس وزحام وتدافع عند جمرة العقبة؛ وقد قال بجواز رميها بعد منتصف ليلة النحر عطاء وابن أبي ليلى وعكرمة بن خالد والشافعي وهو الصحيح من مذهب أحمد وجمع من المتأخرين لما تقدم عن أسماء وابن عمر وعائشة، أما ما روي عن ابن عباس من نهي النبي عن الرمي قبل طلوع الشمس فلم يصح. ومثله القول بعدم جواز رمي الجمار أيام التشريق قبل الزوال ضيق وقت الرمي وسبب التدافع، وقد قال بجوازه ابن الزبير وعطاء وطاووس وعكرمة وأبو حنيفة وهو الصواب لعدم الدليل على المنع، ولأن رمي النبي بعد الزوال فعل والفعل للتأسي لا الوجوب. وقد قال: (افعل ولا حرج ) لمن رمى يوم النحر مساء؛ ولم يأت نص يحدد وقت الرمي، والأصل جوازه ليلا ونهارا حتى يقيده دليل. * المستشار والباحث بمركز علوم القرآن والسنة