كل محب للهيئة يستغرب لماذا يكون انتقاد الهيئة الحديث المفضل لكثير من الناس في المجالس؟، ولماذا يتم تضخيم القضايا المتعلقة بها بشكل يفوق القضايا المتعلقة بالقطاعات الحكومية الأخرى، أليست الهيئة قطاعا حكوميا يجب احترامه؟، ولماذا تكثر القصص المختلقة ويتم ترديدها ونشرها دون التثبت منها، ولماذا لا تذكر حسنات الهيئة وأفعالها الإيجابية في المجتمع، مثل الوقوف بشكل عنيد أمام الفساد المنظم، وأمام حالات الابتزاز الكثيرة؟ الجواب بكل بساطة أن الناس لا تحب السلطة، كل سلطة مبغوضة ولو كانت محقة، الطالب لا يحب المدرسة التي تتسلط عليه، والطفل لا يحب العائلة التي تتدخل في شؤونه بشكل دائم ومستفز، هكذا هي القضية بكل بساطة، والهيئة تورطت بالاحتكاك مع أشد خصوصيات الناس، فعملها يتعلق بتصرفاتهم في الأماكن العامة وحتى الخاصة، وسلوكهم ولبسهم، هذا مبرر رئيسي لنفور الناس. الهيئة تقف في منطقة وسيطة، بين أن تكون جهازا حكوميا خالصا، وبين أن تكون جهة تابعة للمؤسسة الدينية الرسمية وللتيارات الدينية غير الرسمية كذلك، فينسى الناس في كثير من الأحيان أنها جهاز حكومي كغيرها، ويتعاملون معها بوصفها جهة يقوم عليها المشايخ، بل ينسون أن المؤسسة الدينية جهة رسمية، فيتعاملون معها بوصفها جزءا من التيار الديني. ما الذي يدفع عالما من العلماء، أو خطيبا في مسجد، أو شابا متدينا للدفاع عن الهيئة تطوعا من خلال الفتاوى أو المنابر أو على شبكة الانترنت أو حديث المجالس أو رسائل الواتساب؟، أليس هذا دليلا على أن وصف الهيئة بأنها مجرد جهاز حكومي هو اختزال لها؟، ففي حين يلوم المتعاطفون مع الهيئة من يشنع ضدها، يحق لكارهي الهيئة أن يلوموا المتعاطفين لأنهم لا يساوون بين الأجهزة الحكومية في تعاطفهم. بحسب أدبياتنا الدينية في بلادنا فإن المجتمع المسلم يجب أن يخلو من المنكرات الظاهرة في الحياة العامة، ولكون الهيئة تتوجه صراحة للمجتمع بالأمر والنهي وليس لجهة أخرى كالحكومة مثلا، فإن الاهتمام سينصب على سلوك الناس، وبحسب أدبياتنا الدينية كذلك فإن أهم المنكرات العامة مصدرها المرأة، والعلاقة بينها وبين الرجل، وبالتالي سيكون التركيز على المرأة وهيئتها، وكل علاقة بينها وبين الرجل هي أولى أولوياتها، الخلاصة أن تسلسل عمل الهيئة موافق لأدبياتنا الدينية في بلادنا. هناك من يعترض بأن هذا النوع من الاحتساب لا يولد مجتمعا متدينا بقدر ما يولد مجتمعا يتظاهر بالتدين، فهو في العلن سيلتزم بالنظام خوفا من سلطة الهيئة، لكنه تحت الأرض وخلف الجدران سيكون مجتمعا مختلفا، سيكون على طبيعته التي اختارها لنفسه. والواقع أن هذه الحقيقة لا تدهش محبي الهيئة، هم يعلمون ذلك، وهم لا يدعون أنهم ينشئون مجتمعا متدينا بالاختيار، وإنما ينشئون مجتمعا متدينا في الحياة العامة، أي في الظاهر. ليس سرا أن نقول: إن الحرية والاختيار لا تأخذ حظا وافرا في أدبياتنا الدينية، فبالرغم من أن الحرية من طبيعة الدين نفسه، حيث لا يقبل الله عملا يصدر من الإنسان كرها أو قسرا، وإنما يجب أن يكون الدين بإرادة كاملة منه، لكننا لا نجد تركيزا عليها في أدبياتنا ومناهجنا، بل قد تصبح الحرية الدينية تهمة يجب التبرؤ منها. لماذا يتقيد الناس بالقانون دون تذمر، بينما يخرجون عنترياتهم على الهيئة التي لا تريد سوى تطبيق الشريعة الإسلامية في المجتمع، ما الذي يدعو سائق السيارة أن يقف عند إشارة المرور حين تكون حمراء اللون، حتى لو كان الشارع خاليا، دون تذمر، بل إنه يصف فعله هذا بالتحضر، بينما لا يتقبل أن تتدخل الهيئة شبرا في حياته ولا أن تمس ذرة من حريته، ما الذي يجعل المرأة تحديدا تتذمر حين تفرض عليها الهيئة أن تلبس لباسا يتوافق مع أدبياتنا الدينية؟، هذا تساؤل حقيقي، لماذا ينتقد الناس الهيئة بالتحديد دون غيرها؟! حين تتصل السلطة بالدين وتكون باسم الدين يزداد نفور الناس منها، لا يحب الناس أن يتدخل أحد بينهم وبين ربهم. الاختيار من جوهر الدين، هذه علاقة بين الفرد وربه، نقية خالصة من كل تدخل إنساني، وأي تدخل يعكرها ويزيل صفوها، من الطبيعي أن يغضب الفرد كثيرا حين يجد من يجبره على فعل ديني ولو كان مؤمنا به. لذلك يتذمر المجتمع ويتحدث ويطالب الهيئة بالتراجع عن التدخل في شؤونه الخاصة، فالقانون يتدخل لينظم الحياة ويجعلها أسهل، الفائدة هنا متعدية، أما الهيئة فهي تتدخل من أجل حمل الناس على التدين، وهو ما لا يقبله الناس. من الواضح جدا أنه من غير الممكن إلغاء الهيئة بوصفها جهازا حكوميا، ومن الواضح أن المؤسسة الدينية الرسمية والتيارات الإسلامية تتفق رغم اختلافاتها الكثيرة على أن الهيئة من أهم المكاسب التي يجب الحفاظ عليها وعدم التفريط بها، خصوصا أنها تتفق مع فكر كل التيارات الإسلامية في بلادنا والتي تؤمن بحمل المجتمع على التدين في الحياة العامة والخاصة ولو قسرا، وفي ظل هذا الوضع ربما ننجح في إقناع الهيئة بالتراجع قليلا عن التدخل في شؤون الناس سواء في الحياة العامة أو الخاصة، وأن يتجه عملهم وجهدهم نحو الفساد المنظم، ونحو الضرر المتعدي كقضايا الابتزاز مثلا، أو السحر والشعوذة، هذا الفساد الذي يتفق الناس على ضرره، أما ما يتعلق بحياتهم واختياراتهم فيجب أن يعي القائمون على هذا الجهاز الحكومي وأن يعي المحبون والمتعاطفون معهم أنه يضر سمعتهم، وأنه ينفر الناس منهم، وأنه يشوه تدين المجتمع أكثر من أن يصلحه. * أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة الملك فهد