فاعلية التدين في القضاء على الفساد، موضوع دراسات تنموية واجتماعية متعددة، نتائج تلك الدراسات لم تكن مشجعة، إذ أظهرت علاقة طردية بين ارتفاع نسبة التدين وبين ارتفاع نسبة الفساد على المستوى العام في بلد ما، فكلما ارتفعت نسبة التدين في بلد كانت نسبة الفساد أعلى إذا لم نأخذ تلك النتائج بجدية، فعلى أقل تقدير يجب أن نقبل أنها أثبتت أن التدين ليس بالضرورة فاعلاً في التحفيز نحو تطبيق الأخلاق على مستوى الحياة الاجتماعية والسياسية والمهنية. لم تفاجأني النتائج، ولا أظنها تفاجئ أياً ممن يعيش في مجتمعات متدينة، فمن خلال مشاهداتنا المحدودة يمكن لأي منا أن يدرك أن وجود متدينين في مجتمع ما، لا يعني وجود مجتمع أخلاقي، مَن يذهب إلى الحرم في رمضان يرى سرعة التحول من البكاء الخاشع خلال الصلاة إلى التزاحم الشرس بعدها، في حين أن الحالة الطبيعية هي أن يتجلى حبنا لله في حبنا للمخلوقات الأخرى، إلا أن الواقع غير ذلك. هذه النتائج كانت موضوع نقاشات متعددة مع أشخاص من خلفيات اجتماعية وعمرية مختلفة، الموقف الأعم كان رفضها واعتبار أن المجتمعات المسلمة ليست متدينة بالمعنى الدقيق للتدين، وأنها لو كانت كذلك لكانت أخلاقية، البعض دافع عن دور التدين من خلال رفض مقاييس الغرب العلماني في تقييم الفساد. ولكن ما التدين الصحيح؟ الإجابة التقليدية تؤكد أهمية شمول فعل التدين للأخلاق الفردية والاجتماعية، هذه الإجابة تقدم نصف الحل، ولكن يبقى نصف آخر لا بد منه لكي تكتمل إجابة السؤال، فليست المشكلة في تصوري هي في شمول التدين للأخلاق أو غيره، وإنما في ترتيبنا للأمور المكروهة والممقوتة دينياً، أي في تعريفنا لما هو فساد ديني. من الملاحظ أنه عندما ننتقد المجتمعات الغربية لكونها فاسدة فإن تركيزنا يتوجه أول ما يتوجه إلى ممارسات تلك المجتمعات الجنسية والاستهلاكية. العلاقات غير الشرعية، والشذوذ والاختلاط الفاحش، أو استهلاك الربا والخمر والمخدرات، هذا الاختزال للمجتمع الغربي في هذه القضايا يعكس رؤيتنا لما هو فساد ديني وللأولويات التي نملكها حول الفساد، وهي تشير إلى جزء من المشكلة. هناك موقف يتكرر معي وللكثير منا، ذهبت إلى مركز تجاري مع صديق متدين، وعادة يكون على أبواب هذه المراكز أطفال يستجدون عطف الداخل والخارج، عند دخولنا فُتح نقاش حول درجة الفساد التي وصل إليها المجتمع، وكان ما أثار هذا النقاش وجود سيدات غير محجبات متزينات ومتعطرات، أيضاً أثاره المغازلات بين الشباب والشابات، وكان صديقي يؤكد على أن هذا مما يغضب الله تعالى ويثير سخطه، وأنه مما سيؤدي إلى هلاكنا إذا لم نتغير، خرجنا من المركز التجاري لنواجه الأطفال، أولاداً وبناتاً، يطلبون الريال والريالين، كثير منهم دون الثانية عشرة من العمر، أظهر صديقي تعاطفاً وشفقة تجلّى في بضعة ريالات ولكن لم يُظهر أي ملاحظة حول فساد أو معصية لله، قلت له يا أخي إن الله يُعصى هنا خارج السوق وليس داخله، وإن الفساد يتجلى في هذه الطفلة الصغيرة وليس في امرأة تكشف جمالها. نحن نختصر الفساد في سلوكيات فردية غير متعدية، وفي سلوكيات فردية يصل أثرها السلبي علينا مباشرة، ولكننا قلما نصف السلوك الذي يتعدى أثره على الصالح العام بأنه فساد، وبالتالي مِن الطبيعي ألا يعالج التدين تلك السلوكيات، فلا يغيرها ولا يؤثر عليها، وهذا يعود إلى نمط التربية الدينية والتي تكوِّن عاطفتنا الدينية. إن أي سلوك مدفوع بعاطفة، وعواطفنا نحو السلوكيات المختلفة يتم تشكيلها في المراحل المبكرة من أعمارنا، فنتعلم ما نحب وما نكره، في المجتمعات المسلمة فإن عواطفنا يتم توجيهها من خلال التفسيرات السائدة لما هو أخلاقي، لذلك فإننا نكبر وقد غرست فينا مشاعر غضب نحو مجموعة من الأعمال، ومشاعر حب نحو مجموعة أخرى، معظم عواطف رفضنا الديني يركز على الفساد الجنسي والاستهلاكي، ثم بدرجة أقل على الإساءات الظاهرة الفردية، ولكن قلما تنشأ رافضة لإساءات عامة، في حين أن العكس كان يجب أن يكون، كان يجب توجيه معظم عواطف الرفض نحو الفساد العام، ثم الإساءة الفردية، ثم الفساد الجنسي أو الاستهلاكي، ولو حصل هذا كان يمكن لزيادة التدين أن تؤدي إلى زيادة في رفض الفساد العام، ولكن الحال أن التدين إذا زاد فإنما يؤدي إلى رفض الأعمال الفردية الشخصية مثل نوع اللبس، وبالتالي إلى احتكاكات اجتماعية لا تؤثر على واقع المجتمع العام. هناك سبب أعمق لضعف فاعلية التدين في التأثير على الفساد، وهو أن الدافع الأخلاقي الذاتي من حب الخير وبغض الشر لا يتم رعايته في المجتمعات المتدينة بشكل صحيح، نحن نركز في هذا على عنصري الثواب والعقاب، ولكن للإنسان ملكة عطاء لا علاقة لها بالجزاء، ملكة تجعله يحب العطاء من أجل الرضا الذاتي، ومن أجل الاستمتاع بعلاقات إنسانية غنية، ومن أجل الشعور بالانجاز، كما إن للإنسان ملكة نفور من الشر لا من أجل العقاب، وإنما لأنها تعكر صفو الحياة وحلاوتها، وهذه الملكات نفسية موجودة فينا ولكنها تحتاج إلى رعاية، وإلى إبراز، وإلى إعمال وإلا ضَمُرت، ولكننا نهملها، لذلك، فإن حافز المتدين الأكبر هو الثواب والرادع الأكبر هو العقاب، وأما الحافز والرادع الفطري فغير موجودين. كنت في حديث مع امرأة في الثمانينات من عمرها تشرف على مجموعة من المشاريع الخيرية، أحدها يشرف على تدريس 50 ألف طفل حول العالم، هي ملحدة لا تؤمن بثواب ولا عقاب وترى أنها ستموت وستختفي، ولكنها مع ذلك ترى أن قيمة وجودها هي بقدر بذلها الجهد في العطاء، كما ترى أن الأخذ والتعدي يقضي على إنسانيتها، هذه روح لم ننمها في مجتمعاتنا، وهي روح كامنة في كل فرد فينا، ولو وجدت بجانب ذهنية الثواب والعقاب لخلقت تكاملاً مثالياً سيضعنا في موقف غير ما نحن فيه. إن دور الدين في القضاء على الفساد ليس في تطبيق الدين ولكن في فهم أولياته أولاً، ثم توجيه الرفض العاطفي نحو الأمور العامة وليس الخاصة، ولكن بدرجة أعمق في عدم حصر التربية الأخلاقية على المقابل وإحياء الروح الأخلاقية الكامنة فينا. [email protected]