تعيش ليبيا حرباً أهلية، وتزعم جيوش أصولية تدشين خلافة على الحدود السورية العراقية، وتقترب الديمقراطية الأفغانية الناشئة من حافة الانهيار. وفي خضم هذه الاضطرابات، عادت التوترات بين الغرب وروسيا إلى الظهور، وباتت العلاقات الأمريكية مع الصين منقسمة بين وعود بالتعاون وتراشقات علنية. وهكذا بات مفهوم النظام الذي عزز العصر الحديث في أزمة حقيقية. ويشير هنري كيسنجر -مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية الأمريكي في إدارتي نيكسون وفورد- في كتابه الجديد «النظام العالمي» إلى أن مفاهيم المجتمعات الغربية ظلت لفترة طويلة تحمل حصرياً لواء البحث عن النظام العالمي، وخلال العقود التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، بدأت الولاياتالمتحدة بدعم من قوة اقتصاداتها وثقتها الوطنية، في حمل شعلة القيادة الدولية وأضافت بعداً جديداً. ويقدم كيسنجر في كتابه تحليلا للتحدي الذي يواجه دول العالم في القرن الحادي والعشرين، وهذا التحدي من وجهة نظره هو بناء نظام عالمي مشترك في عالم يعج بوجهات النظر التاريخية المتباينة، والصراعات العنيفة، وانتشار التكنولوجيا، والتطرف الأيديولوجي. ويعتبر أنه لم يكن هناك «أبداً نظام عالمي شامل»، فخلال معظم حقب التاريخ، كانت الحضارات تحدد مفاهيمها للنظام، وكل حضارة تعتبر نفسها مركز العالم، وتتصور أن مبادئها الخاصة تصلح للتطبيق عالمياً. فقد آمنت الصين بالهرمية الثقافية العالمية وعلى رأسها الإمبراطور، بينما تخيلت روما نفسها محاطة بعالم من البرابرة، وعندما ضعفت، راجع الأوروبيون مفهوم توازن الدول ذات السيادة وسعوا لتصديره إلى أرجاء العالم. واعتبر بعض المسلمين أنفسهم الوحدة السياسية الشرعية الفريدة في العالم، وأن الإسلام مقدر له الانتشار حتى يقود العالم إلى التآلف وفق مبادئ الشريعة. وولدت الولاياتالمتحدة من مبدأ التطبيق العالمي لمبادئ الديمقراطية، المبدأ الذي قاد سياساتها منذ ذلك الحين. وأوضح كيسنجر أن الولاياتالمتحدة -التي قامت على فكرة الحرية والحكم النيابي- حددت نهوضها بنشر الحرية والديمقراطية وألقت بثقلها وراء هذه القوى مع القدرة على إحراز السلام الدائم والعادل، مضيفاً: «إن المنهج الأوروبي التقليدي الخاص بالنظام اعتبر الشعوب والدول في حالة تنافس راسخة، ومن أجل احتواء آثار هذه الطموحات المتعارضة، اعتمدت الولاياتالمتحدة على توازن القوة ومجموعة من رجال السلطة المستنيرين. أما الرؤية الأمريكية السائدة فاعتبرت أن الشعب عقلاني بطبعه وميال إلى التسوية السلمية، ومن ثم كان نشر الديمقراطية هدفاً جوهرياً للنظام الدولي». ونوّه الكتاب إلى أن شؤون الدول حالياً باتت تتحدد على أساس عالمي، ومن ثم تلتقي المفاهيم التاريخية لكافة الدول، وتشارك كل منطقة في قضايا سياسية مهمة لدى مناطق أخرى. ورغم ذلك ليس ثمة إجماع بين القوى الفاعلة الرئيسة بشأن القواعد والقيود التي تحكم هذه العملية، والنتيجة هي زيادة التوتر. واعتبر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق أن الأسواق الحرة رفعت من شأن الأفراد وأثرت المجتمعات وحلت محل اعتماد القوى الدولية التقليدية المتنافسة على بعضها البعض، وأن السنوات التي أعقبت عام 1948 حتى نهاية القرن مثلت مرحلة مهمة في تاريخ الإنسانية؛ إذ أصبح من الممكن الحديث عن نظام عالمي أولي يتألف من مزيج بين المثالية الأمريكية والمفاهيم الأوروبية التقليدية للدول وتوازن القوى، غير أن مناطق كثيرة من العالم لم تتقاسم هذا المفهوم الغربي للنظام، وإنما أذعنت له فحسب، موضحاً أن هذه التحفظات أصبحت الآن جلية في أزمات مثل الصراع في شرق أوكرانيا وبحر الصين الجنوبي. ويرى كيسنجر أن طبيعة الدولة ذاتها -باعتبارها الوحدة الأساسية للحياة الدولية- خضعت لكثير من الضغوط، فأوروبا تأهبت لتجاوز الدول ووضعت سياسات خارجية تعتمد بصورة أساسية على مبادئ القوة الناعمة، وفي الوقت نفسه انزلقت أجزاء من الشرق الأوسط في صراعات طائفية وعرقية وتفككت بعض هذه الأجزاء إلى مليشيات تدعمها قوى خارجية لانتهاك الحدود والسيادة وترسيخ ظاهرة «الدولة الفاشلة» التي لا تستطيع السيطرة على أراضيها. وألمح كيسنجر إلى أن التعارض بين الاقتصاد الدولي والمؤسسات السياسية التي تحكمه، يضعف هو كذلك مفهوم الهدف المشترك الضروري من أجل إرساء دعائم النظام العالمي، مشيراً إلى أن النظام الاقتصادي بات عالمياً، لكن الهيكل السياسي للعالم لا يزال يرتكز على أساس الدولة الوطنية، بينما تتجاهل العولمة الاقتصادية في جوهرها الحدود الوطنية. ويؤكد أن النظام الدولي يواجه إشكالية متمثلة في أن ازدهاره مرهون بنجاح العولمة، التي تسفر غالباً عن ردود فعل سياسية مناوئة للتطلعات والطموحات، لا سيما في ضوء غياب آلية فعالة للتشاور والتعاون بين القوى العظمى بشأن القضايا المهمة.