بيوت من الطين تحكي واقع الحال، أزقة هنا وهناك، تربطها، وتحكي واقع الحال. بيوت مهدمة، جدران تهاوت، أبواب مشرعة، وتحكي واقع الحال. نوافذ حزينة، ذبلت بها مشاهد رؤيا، وأحلام عيون كانت بجانبها، ترقب خفق القلب، ولوعة الأسفار. كم احتوى هذا الثرى من ذكريات! كم به من رفات ناس، كانوا هنا! في أعماق هذا الثرى صوت أجدادي، وحنينهم، وكل عواطف الأشجان. كم دار من نقاش بينهم! تسامروا، تشاكوا، وتعالت أصوات أوجاعهم. كم تعالت ضحكات أفراحهم! كم هللوا، وسبحوا لله، ودعو لبعضهم! بيوت كانت تحمل دفء الحياة، ودفء أجسادهم، وصدى الهمسات. مروا من هنا. ذهبوا. ودّع بعضهم بعضا. بكى بعضهم بعضا. وفي النهاية من هو الباكي؟! من يرثي البكاء والأطلال؟! أحفادهم نزحوا. المكان ليس مكانهم. المكان ليس للعظات أو الفخر، تلاشت قمم الرجال، وتناثرت طناجر النساء. مررت بها، لم أجد لا نسبا ولا حسبا. من كان يسكن هذا البيت؟! من كان يمشي في الطرقات؟! من كان يحكي للأطفال، قصة الطين المزخرف؟! هذا كان بيت فلان من الناس، اليوم احسبه على الأرائك، لا يذكر الماضي. وآخر قال ينادي: أنا بيت فلان من الناس، وقد كنت قصرا كبيرا، محل فخر، ومقصد المحتاج والشورى، اليوم أصبحت كومة طين، لا قيمة لي ولا شأن. واصلت تجوالي في (الكوت). في أزقة الماضي، رأيت الناس تدعوني، وقد ماتوا. رأيت نساء يقلن شكرا أيها الحادي. رأيت أطفالا يلعبون (الهول)، تنادوا، تجمعوا حولي. رأيت ابتسامات، طلت عليّ من النوافذ، على استحياء ترقبني. بيوت فتحت مصاريعها، برجال هاماتهم كرم، تدعو: تفضل أيها الحادي. سالت على الخد دمعة، لم اعرف لها طعما. تغير الطين. زيارة (الكوت) أنستني... ... ... زيارة (الكوت) أيقظت بداخلي، مخزون أجدادي. رأيت فيها وحولها قوما، طينهم ليس من طينها. تغير الكلام. ساد صمت الزمان. انقرض الكلام. الطين مثلي غريب، ولا الصدى فيه مسموع. دخلت منسلا. خفت على نفسي، من غربة مكان، كان يعج بأمثالي من الأهل. لم يعد هناك أهل، كلهم أصبحوا أجناسا من البشر الأخرى. أغراب تناثروا في (الكوت). أين من كان ينادي، مبروك جالك ولد، مبروك هذا الولد؟! أين من كان ينادي، اليوم عرس حمد؟! أين من كان ينادي، تفضلوا للعشاء؟! أين من كان ينادي، جاركم محتاج، تعالوا نقتسم كسرة الخبز، وحبة التمر؟! أين من كان ينادي، حياكم، البيت بيتكم، تفضلوا، حياكم، يا هلا والله ومرحبا؟! أين من كان ينادي، هذه الأيادي، تعاونوا؟! وقفت صامتا كجدار الطين، ألمحه ويلمحني، أسأله ويسألني، بكى وبكيت، وفي دربي مضيت. سجلت الكثير، من الآهات على (الكوت). وهكذا مضيت. تراجعت خشية. انسحبت رهبة. اشتكت لي حالها، وسمعت أصواتا بداخلها. سمعت صوتي، فزاد خوفي. تراجعت مشيا، أبحث عن مخرج، يبعدني عن غربة الماضي. تركت أجدادي، وتلك بيوتهم تحكي، كيف أنهم، سجلوا بوجودي، كلمة للتاريخ تحكي، أنني منهم. أحمل بداخلي دما عربيا، ضخه آبائي وأجدادي. ذهبت بعيدا. لم يعد يروق لي المكان، والبيت والطرقات. خلت نفسي شيئا جديدا. ولكن بقيت في داخلي، طينة الكوت. مات بانيها، نعم، ولكن بقيت حيا، لكم أروي قصة الكوت. قصة جدي وأبي. قصة الماضي. بيوت الطين ولّت، لم يعد هناك، لها سوق. خارج الكوت، بنيت مع الجيران، ألف كوت جديد، وبطين جديد. تغير الطين. لا طين ولا بشر. رفاتهم بدمي. حيث شئت أنقله، في النعمة معي. يعيش حيث يحلو لي العيش. الكوت إنسان ومشهد، ولحاف مزخرف بالنقوش. الكوت أرض. وكل الأرض دور لنا وحقول. لأجدادي فضل كوني من الكوت. الكوت حي في الهفوف قديم. الكوت قرى بلادي المنسية. الكوت منازل وأزقة مهجورة. الكوت يا صرخة الماضي.