مدينتان تشكلان وضعاً استثنائياً في العراق، هما النجف وكربلاء، فالاولى: هي مرقد الإمام علي بن ابي طالب رضي الله عنه، وهي مركز علمي وبحثي واجتهادي لدى الشيعة الاثنى عشرية. أما الثانية مدينة كربلاء: فهي مرقد الإمام الحسين بن علي قتيل معركة (الطف)، والى جانبه يرقد "العباس" كما يرقد عدد من الذين قتلوا معه في تلك المعركة الشهيرة، لكن مدينة كربلاء ليست مركزاً علمياً، بقدر ما هي مزار، وأماكن لعدد من المجتهدين. لكن رجل الدين المعروف "محمود الحسني الصرخي" اتخذ من حي (سيف سعد) مقراً لمكتبه، وهو يقع جنوبي مدينة كربلاء، والمشهور بعدد هائل من الفقراء والشغيلة. وقد بدأ وجود الصرخي في هذه المنطقة بالذات يؤرق السلطات المركزية كثيراً، لا سيما عبر خطبه التي يهاجم فيها النفوذ الايراني باستمرار. كما كان يفند فتاوى المرجع الديني في النجف السيد (السيستاني) معتبراً اياه رمزاً من رموز العمالة لأمريكا لا سيما بعد فتواه الشهيرة القاضية بتحريم قتال الجيش الأمريكي، في الوقت الذي كان (الصرخي) يقاتل فيه هذه القوات الغازية للعراق، بصحبة مجموعة شجاعة من ابناء مدينة الناصرية. ولقد أقدم محافظ كربلاء (عقيل الطريحي) على استبدال قائد شرطة مدينته اللواء حسين عليوي عاشور بالعميد غانم العنكوشي الذي اتهم الصرخي بالعمالة للمملكة العربية السعودية، وانه بات يشكل خطراً على مستقبل العراق. ولقد وصلت الاتهامات على الصرخي حد ربطِهِ بالبعث وأخيراً (بداعش)، لكن كل هذه الاتهامات لم تضعف موقف الشيخ محمود الحسني الصرخي، بل زادته استنفاراً وجاهزية، الأمر الذي دفع أنصاره في كربلاء والكاظمية والبصرة والناصرية وبعض مناطق بغداد، إلى رفع السلاح، ومهاجمة القوى الامنية التي سبق وهاجمت مكاتب الصرخي. ومهاجمة القوى الامنية التي سبق وهاجمت مكاتب الصرخي، علماً بأن هذه المكاتب كانت تحظى بنسبة حماية من قبل (مقتدى الصدر) لأن الصرخي تخرج أصلاً على يد والده "محمد صادق الصدر" حتى استقل وانشأ الحركة الصرخية. متكنياً بلقب المرجعية الصرخية وحاملاً اسم "محمود بن عبد الرضا بن محمد الحسني الصرخي" وهو ابن الحوزة العلمية التي أسسها السيد (محمد صادق الصدر)، بل هو ضد الحوزة الصامتة المتمثلة في الاربعة الذين يترأسهم السيستاني منذ العام 2003. أهم حدث في حياة الصرخي هو صدور قرار أمريكي عام 2004 بإلقاء القبض عليه ونقله إلى أمريكا للمحاكمة، لأنه متهم بقتل عدد من الجنود الامريكيين. وقد نشر بعض الصحف العراقية قرار اعتقاله الأمريكي، الأمر الذي دفع أنصاره إلى مهاجمة هذه الصحف واحراق بعضها. معركة المالكي ضد الصرخي معركة مستعارة من أرشيف صراعه مع قوى عراقية كثيرة، وقد طلعت إلى السطح الآن، لأن بعض الكتل البرلمانية العراقية أرادت ان تفتح سجلات المالكي بحق بعض القوى الشيعية، مؤكدة ان عدوانية المالكي ليست محصورة في حق الانبار وأهل السنّة، بل هي تجاوزت هذه الحدود لتصل إلى صلب المعادلة الشيعية في العراق. لكن لماذا استدعى المالكي قواته من الحدود السعودية؟ أساساً لماذا حشد المالكي هذا الحشد العسكري المزود بصواريخ تكتيكية، وعدد كبير من الراجمات، ومعززة بمدفعية ميدان بعيدة المدى؟ الخبراء العسكريون يؤكدون ان المالكي كان ينتظر اشارة من حليف خارجي معروف، كي يفتعل معركة ضد المملكة العربية السعودية. لكن أوامر أمريكية قاطعة أبلغته بأن مثل هذه المعركة تعني نهايته سياسياً وشخصياً، وان عليه ان يسحب هذه القوات، فما كان من هيئة الاركان إلا ان أصدرت أمراً مربكاً، طالبت فيه القوات الحدودية وهي بمقدار خمسة ألوية، ان تنسحب بسرعة، وتترك عتادها الثقيل وسلاحها في مكانه. استغرب المقدم حسين حسن موسى مثل هذه الاوامر، بل استهجن إقدام ضباط (اللوجستيك) على رمي العديد من الاسلحة المتوسطة في الصحراء، ثم انحراف ارتال كاملة عن الطريق والضياع في الصحراء، حيث عثر على بعضٍ منهم موتى من العطش. المشكلة لم تنته مع الصرخة، حتى بدأت مع الكرد، فإذا كان المالكي يعتقد ان المسألة مسألة شهامة ووفاء، فهو يجهل كل شيء عن السياسية، التي هي (فن الممكن) وسرعة اقتناص اللحظة. لذلك يتصرف السيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان، وفقاً لغريزة المقاتل هذه المرة، تاركاً للسياسي أخلاقيته البالية. إنه تسلم مدينة كركوك، التي يسميها الرئيس "جلال الطالباني" قدس الاكراد، وحول نفطها إلى كردستان، وبدأ التصدير إلى إسرائيل. فما المخجل بالنسبة له؟ لأنه يمارس عملاً سياسياً صرفاً، وهو يتصرف كرئيس إقليم يقف على عتبة الاستقلال، ومن لديه القوة كي يغير هذه المعادلة فليتحرك الآن، وإلا فليصمت إلى الابد، لأنه خسر المعركة منذ اللحظة الأولى لبدايتها. ضد استقلال كردستان يقف العراق، وتقف تركيا وايران، فما الذي يستطيع هذا المثلث المنهك المخترق ان يفعل؟ على أرض الواقع لا شيء، والقوى الأساسية لا تساند هذا المثلث حتى لو اتفق بأركانه الثلاثة، وهذا الاتفاق ليس سهلاً إن لم يكن مستحيلاً، اذا المشروع الكردستاني يسير ولا يتوقف، وقد أضحى شبه (أمر واقع) الآن! معركة خاسرة أخرى جر العراقيون إليها المالكي، ولم يزل يعاند مراهناً على دخول أمريكا معركة كبرى من أجل تثبيت سلطاته على الأرض! هكذا يحلم الجنرال الفاشل حسب تعبير الروائي غابرييل ماركيز. المعركة الثالثة، ضد الدولة الإسلامية وجماعة العشائر تأخذ معركة المالكي ضد منطقة الانبار برمتها، وضد الدولة الداعشية اينما وجدت، طابعاً اعتباطياً، فهو يستخدم الطيران أحياناً، ويركز معركته في نقطة واحدة، مثل تكريت. معتقداً ان النصر على المدينة - التي ولد قربها (صدام حسين) - يمنحه مدلولات رمزية، لكنه يكتشف مؤخراً أن احتلال المدرسة الاعدادية لتكريت لا يعادل مطلقاً خسارة ثكنة عسكرية، وان خسائر قواته تزيد خمسة أضعاف خسائر خصومه، وان القوات التي تقاتل هناك بدأت تنسحب بشكل لا ارادي. كما ان منطقة العوجا - التي فيها قبر صدام حسين وأولاده - ليست منطقة استراتيجية. أما مناطق نينوى، فإن أية معركة هجومية لم تحصل، بل إن حالة من الترقب القلق تلف الجبهة برمتها، فيما ستبدو جبهة بعقوبة - ديالى محسومة لصالح العشائر التي تتمركز الآن بمنطقة (خان بني سعد) على مقربة من بغداد. هذا الوضع الميداني مع الانسحابات العشوائية التي أنجزها المالكي، جعلت من أمر عودته إلى رئاسة الوزارة أمراً شبه مستحيل، وان الكتل الأخرى - بعد فشل الجلسة الأولى للبرلمان العراقي - سوف تتفق حتماً على الامور التالية: أولاً – إصدار عفو شامل عن جميع المتورطين في هذه الحروب. ثانياً - تعيين رئيس للحكومة العراقية، يمتلك ثقة العشائر، ويستطيع ان يتفاوض مع الكرد. ثالثاً- انجاز العديد من المشاريع المؤجلة، أو المسروقة مخصصاتها كي يطمئن الشعب العراقي. رابعاً- إبعاد شبح الجنرال الايراني (قاسم سليماني) قائد (فيلق القدس) عن كرسي الهيمنة على القرار العراقي، فهو الآن الحاكم الفعلي للعراق، والمفوض السامي المكلف من قبل نوري المالكي لإدارة الآلة العسكرية العراقية. خامساً - إبعاد الانقلاب العسكري في اللحظات الأخيرة عن رأس المالكي وقادته العسكريين الذين يعرفون الكثير من الاستياء، إلا الأمور العسكرية. كل هذه الأمور مجتمعة يجب ان تنجز في أقرب وقت ممكن وإلا فإن بغداد سوف تستفيق ذات صباح على وقع انقلاب يطيح بكل شيء، لأن المالكي قرر هكذا. "يستفيق المهزوم أحياناً على شعور غامض يصور له إمكانية تحويل الهزيمة إلى نصر، والنصر يصير سبيلاً لوجود أمة، لهذا كان هتلر يؤمن بأن النصر بؤرة ينطلق منها التغيير في اللحظات الاخيرة، حتى قبل ان يضغط على زناد مسدسه وينتحر".