عندما كنتُ على مقاعد الدراسة الجامعية، وفي دَرْس مبادئ التسويق تحديداً، كان أستاذنا الفاضل يتجاوز بِحُسن نِيّة شرْحَ دروس «الإشكالات الأخلاقية» Ethical Dilemmas في التعاملات التجارية التي يُختَتَمُ بها كل فَصْل من الكِتَاب، تاركاً لنا حرية قراءتها. كان يقول لنا : إن الكِتَاب مؤلفٌ ومطبوعٌ في أمريكا، وأنتم مسلمون؛ لديكم من القِيَم الدِّينية ما يكفي لتمكينكم من تمييز الخطأ من الصواب. مرَّ على ذلك الكلام أكثر من خمسة عشر عاماً، منها عشرة أعوام وأنا أعمل. كم أتمنى الآن أن يعود بي الزمن إلى المحاضرة نفسها، بعدما رأيت في عالم الأعمال وما يحيط به كثيراً من الممارسات اللاأخلاقية، لأقول لأستاذي : «بل إننا يا أستاذنا العزيز في حاجة ماسَّة إلى دروس أخلاقية!». كثير من الناس يَخلِط بين أمريْن منسجِميْن، لكنهما مختلفان مستقلاَّن، هما الدِّيِن والأخلاق، أن يكون الشخص مُتَديِّناً أمر، وأن يكون ذا خُلُقٍ أمرٌ آخر، وقد أكَّدَ الدِّين على ضرورة إكمال التَّديُّن بحُسْن الخُلُق، لأن الالتزام بالدِّين يبني العلاقة بالخالِق، والالتزام بالخُلُق يبني العلاقة بالخَلْق، لذا كان التَّديُّن زائفاً إذا لم تدعمهُ أخلاقٌ أصيلة، وقد ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله : «لا يغرنَّكم طَّنْطَنَة الرجُلِ بالليل ( يعني صلاته )، فَإنَّ الرجُلَ من أدَّى الأمانة إلى من ائتمنه, ومن سَلِمَ المسلمون من يدِه ولِسانِه»، وقديماً كان لأهل الجاهليّة أخلاق حميدة أثنى عليها الإسلام. أما اليوم فنَجِدُ بعض اللادينيين الغربيين يمتنعون عن الرذائل لدوافع أخلاقية بحتة. من هُنا يمكننا استيعاب قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنما بُعثتُ لأتمِّمَ مكارمَ الأخلاق». في حاضِرنا اليوم، جَلَبْنا معنَا إلى مؤسساتنا كثيراً من أعرافنا وعاداتنا السلبية، وزرعناها في ثقافتنا التنظيمية. لقد قمنا بترسيخ أمور لا أخلاقية كثيرة في بيئات عملنا، بحُسْن نِيّة غالباً؛ من باب التساهل تارَة، ومن باب الضغوط الاجتماعية تارَةً أخرى، وأصبَح مُتعسِّراً على كثير منّا التملُّصُ من أعراف بالية وعادات خاطئة، لأنها أصبحت شيئاً من ثقافتنا وكينونتنا، بل وأصبح من يَرفُضها يُرفَضُ اجتماعياً. وللعالِم الدكتور مصطفى محمود يرحمه الله كلام جميل في هذا الجانب، إذ قال: «الفضيلةُ صفة إنسانية، وليست حكراً على دِيِن بعينه ولا على مُجتمع بعينه ولا على شخص بعينه، ولم تكن في يوم من الأيام خاصةً بنا نحن المسلمين دون سوانا، فلدينا نحن المسلمين من يحاربون الفضيلة أكثر من بعض دعاتها في الغرب، لكننا الأوْلَى بها بكل تأكيد». في حاضِرنا اليوم، جَلَبْنا معنَا إلى مؤسساتنا كثيراً من أعرافنا وعاداتنا السلبية، وزرعناها في ثقافتنا التنظيمية. لقد قمنا بترسيخ أمور لا أخلاقية كثيرة في بيئات عملنا، بحُسْن نِيّة غالباً؛ من باب التساهل تارَة، ومن باب الضغوط الاجتماعية تارَةً أخرى، وأصبَح مُتعسِّراً على كثير منّا التملُّصُ من أعراف بالية وعادات خاطئة، لأنها أصبحت شيئاً من ثقافتنا وكينونتنا، بل وأصبح من يَرفُضها يُرفَضُ اجتماعياً، لذا تًفشَّت مظاهر سلبية كثيرة في مؤسساتنا، مثل الواسِطة (الشفاعَة السيئة)، والمحاباة في التوظيف، والتمييز بين الموظفين لسبب أو لآخر، وقبول الرشوة وتسميتها هديَّة، والتغيُّب عن العمل مع أخذ الأجر، واستغلال موارد العمل لمصالح شخصية، وغير ذلك الكثير والخطير. قبل أيام، أخذتُ سيارتي، وقد اتَّسَختْ بعد يوم مَطير حتى تَغيَّر لونها، إلى مغسلة سيارات قريبة. وجدتُ عشرات السيارات مُصطَّفة تنتظر الغسل، فسألتُ العامل المسئول، وكان من الهند، عن إمكانية غسْل سيارتي، فرَدَّ بالإيجاب، وطلبَ مني الرجوع لتسلُّمها بعد 3 ساعات، فتركت السيارة عنده، وعدتُ ماشياً إلى بيتي. وبعد 3 ساعات عدتُ إلى المغسلة، وكان العُمال قد أوشكوا على الانتهاء من غسل سيارتي، فانتظرت قليلاً، وأثناء انتظاري، جاء شابُّ فقال للعامل المسئول : «جئتُ من طرَف سليمان صاحِب المغسلة، خذ كلِّمْه»، ومدَّ له هاتفه الجوَّال. كان يريدُ غسلَ سيارته فوراً ومجاناً، دون التقيُّد بطابور الانتظار (استغلال نُفوذ بلغة القانون)، ثم جاء الثاني، وحاول بالقوة إقحام سيارته داخل المغسلة بعدما طلبَ منه العامل الانتظار، ثم قام بتهديده إن لم يغسلها حالاً، وخرَجَ من سيارته مُجلْجِلاً مُتوعداً العاملَ المسكين (تهديد وترويع جنائي بلغة القانون)، ثم جاء الثالث، وقال: «يا صديق تعال!»، وأخذهُ جانباً، وهمَسَ له: «سأعطيك زيادة فلوس، لكن اغسلها الآن!» (الشُّروع في رشوة بلغة القانون). الحالات الثلاث الماضية حدثتْ أمامي بشكل درامي متتابِع خلال عشر دقائق فقط، في مغسلة صغيرة للسيارات، وهي حالات شائعة في أماكن عامة أخرى، نتغاضى عنها جميعاً، ونُبرِّرها بصيغ مُخجِلة لا مسئولة تُلمِّع الفسَاد من نوع: «عادي، هوِّنها، عدِّيها، لا تُكبِّر الموضوع»، وباقي الأعذار الطيِّبة التي تقود إلى الجحيم. أما الشباب الثلاثة فسينخرطون لاحقاً في العمل بمؤسسات القطاع العام أو الخاص. إذاً لا غرابة في أن تُقام لدينا هيئة خاصة، مهمتها الحصريَّة مكافحة الفساد! [email protected]