عَشق أهالي الأحساء الأصالة فيما يمارسونه من حرف يدوية، وحققوا شهرة واسعة بما تقدمه سواعدهم السمراء من فنون مهنية، منذ زمن بعيد، وقد ارتبطت هذه الحرف المختلفة بأماكن صناعتها، واشتهرت بعض شوارع الأحساء بأسماء المهن، حتى باتت تلك الشوارع التاريخية ناراً على علم .. وأشهر من مدن الأحساء نفسها، فها هي الشوارع المهنية في وسط مدينة الهفوف شابة وقوية نابضة بالحياة، وحتى يومنا هذا تحتفظ بطابعها الأصيل، وتؤدي دورها بامتياز، وإن تغيرت ملامحها، وتبدلت دكاكينها، وتقلص عدد صناعها، .. لكن بما تبقى من مبدعين وطنيين، ما تزال صامدة، حيث يعتبر كل شارع من هذه الشوارع المهنية مركزاً تجارياً بحد ذاته، يقدم السلع التخصصية المصنوعة بأنامل وطنية خبيرة، إضافة إلى أنه مكان يجتمع فيه أهل الصنعة على صنعتهم، ويتبادلون الأحاديث، ويبثون هموم حرفهم، بينما كانت هذه الشوارع في الماضي، تشكل نقطة التقاء بين أهالي بلدات المحافظة وأهالي المدن .. مزيدا من التفاصيل في هذا التقرير : الشارع الملكي من بين تلك الشوارع القديمة في مدينة الهفوف التي ذاع صيتها، وارتبطت باسم المهن التي تمارس فيها، شارع الحدادين، وشارع النجارين، وشارع الندافين، وشارع المدير الخاص بأهل الفن والفنانين الشعبيين، وكذلك الشارع الملكي وإن كان حديث عهد، وغيرها من الشوارع الأخرى.وتكفي جولة سريعة في شوارع الأحساء، للتعرف على تلك المحطات التاريخية، وما طرأ عليها من تغيير، وما تكنه خواطر أصحابها من ذكريات مشبعة بالعطاء والتاريخ، واستمرار وفائهم لحرفهم التراثية، التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، وحافظوا عليها رغم بعض المشاكل التي ساهمت في إضعافها والتقليص من مردودها المالي. شارع النجارين تفخر منطقة الرفعة الشمالية بمدينة الهفوف باحتضانها أهم الشوارع المهنية، والذي يعرف بشارع النجارين، وهو من الشوارع المهنية المعروفة، كما يعتبر عنوانا بارزا من معالم الهفوف، ومكانا ينطلق منه الإبداع في صناعة منتجات من الخشب، لا يمكن الاستغناء عنها بأي حال من الأحوال، مثل سرير المولود حديثاً (المنز)، كما يصنعون «النعش» آخر ما يوضع فيه الإنسان في الحياة، قبل أن يفارقها، وبين «المنز» و»النعش» تصنع جملة من المنتجات الخشبية، من أهمها أبواب البيوت التي تخفي الأسرار داخلها، والدرايش وما تحمله من نقوش تراثية جميلة، وشارع النجارين بعد أن كان يوما ما يعج بأصوات المطارق ومناشير الخشب، تحول إلى معارض للمنتجات فقط، عدا عدد من ورش النجارة، التي لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، وأصبح سوقاً تملأه الأيدي العاملة الأجنبية التي سدت الفراغ والفجوة التي أحدثها الجيل الجديد بابتعاده عن تعلم حرفة النجارة. الموروث التراثي وكعادة أهل الأحساء استقبلنا الحرفي صادق الحرز، بابتسامة عريضة وباستكانة شاي، وتحدث عن الشارع مبتدئا بعمره فقال :» شارع النجارين عمره أكثر من نصف قرن، وكان محتضن المبدعين في النجارة، وساهم بشكل كبير في الحفاظ على هذا الموروث التراثي المهم، وتناقلته الأجيال من هذا الشارع الذي يتميز بالأصالة ومنتجاته معروفة بالدقة والجودة والجمال، وحتى هذه اللحظة، مازال شارع النجارين، يربط الماضي بالحاضر والمستقبل أيضا»، وعن الماضي قال : « كانت مهنة النجارة تمثل لأصحابها باب رزق وحيد، وتتميز أعمالهم بالفن والابتكار، وفاءً منهم لمهنتهم التي تعتبر لقمة العيش لهم، إضافة إلى أن الشارع كان المكان الذي يجتمعون فيه، ويلتقون مع الآخرين، لكن الوضع مع مرور السنين تبدل، والأحوال تحولت، وأصبح الشارع يدار من قبل العمالة الوافدة، التي حشرت أنفها في الصنعة فيما لا تهتم سوى بالربح المادي السريع على حساب الجودة، وعلى حساب ما ينتجه الحرفي السعودي في هذه المهنة التي تراجعت تحت ضغط الظروف السلبية التي تحاصر صاحب المهنة من جميع الجوانب «. الصناديق الخشبية ويكمل النجار حسين الحرز حديثه فيقول :» حاول النجارون الأوائل المحافظة على مكانة شارع النجارين، لكن المدنية والتطور والميكنة، ساهمت في تغيير أنواع المنتجات، حيث كانت في السابق تصنع الأبواب، والنوافذ، وأسرة الأطفال وبعض الأثاث المنزلي، والصناديق الخشبية، وكراسي القرآن الكريم، التي كانت تصنع بجودة عالية، لا تقارن بها صناعة وقتنا الحاضر». انخفاض القيمة ومن فئة الشباب، تحدث الشاب زهير الصالح الذي قال :» تعلمت أصول المهنة على يد والدي، وقد تخصصت الآن في تنفيذ المنتجات التراثية والعمل على ابتكار الجديد، كما أنني أقوم برسم أشكال المنتجات يدوياً، والاستعانة أيضا بالحاسب الآلي في ذلك، واختيار بعض النماذج، ثم تطبيقها على الخشب هندسياً»، وعن حركة السوق الشرائية للمنتج المحلي، قال زهير :» انخفض الإقبال كثيرا بسبب المنتجات المستوردة، إضافة إلى ما يتم جلبه من مدينة الرياض، وكذلك بحث الزبون عن انخفاض القيمة على حساب الجودة، وأطالب هنا الجهات المختصة بإنقاذ هذه الحرفة من الأيدي الدخيلة عليها من العمالة الأجنبية، كما أطالب وزارة التجارة برقابة مستمرة على جودة المنتجات» . العمالة الوافدة سيطرت على المهن الحرفية شارع «الندافين».. شاهد على مهنة عشقها الآلاف قديماً وهذا «شارع الندافين» الذي يعتبر من الشوارع العريقة في الأحساء، مازالت بصمته واضحة في تراث الأجداد بتواجد محلات الندافة التي تتربع على جانبي الطريق، تلك الدكاكين العتيقة ما زال بعضها على حالها بنكهتها الأصيلة تحكي قصة ندف القطن بأيد حساوية رصينة، نشاهد أمام واجهاتها المساند والدواشق والتكيات متناثرة أو مصفوفة في إشارة واضحة لأجيال اليوم بأن الحرفة ما تزال صامدة، بينما بعض المحلات الأخرى تحولت إلى الحداثة وتغيرت أشكالها ومسمياتها تحاكي نهضة وتطور الأحساء السريع في كل جوانب الحياة، هناك في ذلك الشارع الذي يجاور مصلى العيد في طريق الإمام محمد بن عبدالوهاب المتفرع من طريق مبنى الإمارة القديمة بقلب منطقة الصالحية الشهيرة، يُحلج فيها القطن على الطريقة الحساوية القديمة، وهناك تعود الذاكرة بالحاج جابر أحمد الجبر، إلى قيصرية الأحساء، عندما كان يعمل في سن مبكرة في مهنة القطانة، حيث كانت القيصرية المكان الأصلي لهذه المهنة قبل أن تنتقل إلى مكانها الحالي في الصالحية، وكيف كان العمل شاقا وساعاته الطويلة، التي تبدأ منذ الصباح الباكر حتى غروب الشمس، لم يكن بينهم أي أجنبي، تداعب يداه مهنة ندف القطن، مقابل ريالات معدودة، مشيرا إلى أن «مهنة ندف القطن من الحرف القديمة التي اتخذتها بعض الأسر كمصدر رزق لها، من خلال عملية ندف القطن وتنظيفه، مرورا بحشوه بالأكياس وتثبيته، ثم خياطة الثوب، وأخيرا تلبيسه داخل القماش الذي يسمى بالثوب»، مؤكدا أن «تلك العمليات تتم يدويا في السابق، أما الآن يندف القطن آليا والخياطة آلية»، مضيفاً أن «المادة الأساسية وهي القطن تورد من سوريا، وباكستان، وتركيا،والهند».