مع مواسم الاستشهاد التي اشتعلت في أيام العيد الأحمر في كل مدن القطر السوري برز حراكان بدا أنهما متوازيان في القوة إلا أنّ إرادة احدهما كانت أقوى وأطول نفساً رغم أنّها سلمية تمثّلت بحركة الثورة السورية ونهر دمائها المتدفق، وكان الحراك الآخر للنظام الحاكم شرساً وعنيفاً ودموياً لكنه ظهر كالوحش المُنهك الذي اجتمعت عليها أسراب الصغار من أبناء ضحاياه كلما نزع يطارد ضحية أخرى غَرس في خاصرته المناضلون الصغار رمحاً صغيراً يستنزف طاقته ويلوي أقدامه، وهو قد تجسّد فعلياً في صورة نظام الرئيس وعائلته المحيطة وجهازه الأمني، بدت هذه الصورة واضحة للمراقب وهو يتأمل مشهد اندفاع الجيش السوري وميليشياته من شبّيحة وغيرهم في ثلاث مذابح متتالية بدأت بحماة فحمص ثم دير الزور.. وحتى كتابة هذه السطور لا يزال القتل جارياً ومع ذلك فان استطلاع المستقبل يبدو بارزاً كشاهد منهجي يتنقل في رصد الثورة السورية ويعطي دلائل على أنّ المذابح الأخيرة كانت اكبر نزع لترنح النظام وسقوطه. الشهداء القوة الحاسمة دعونا نستقرئ المنعطف بدقة تقودنا لاستشراف واقعي، فمرةً أخرى تعود بنا الصورة لتأكيد ما ذكرناه من دراسات متتالية عن الثورة السورية وهي أنّ وحشية النظام لا حدود لها ولا يكفي هنا إعادة ذلك البرنامج المتنوّع من القتل وهدم البيوت بالقصف الثقيل، ومجزرة حمص ليلة السابع من أيلول سبتمبر التي قدّمت في ليلة واحدة قرابة الثلاثين شهيداً، فقط فلنأخذ رمزية ذبح طفل حماة نحراً كافية لدلالة عقيدة قطاع الجيش العقائدي المؤمن برابطه الفئوي مع النظام، لكن هنا علينا أن نتأمل في الصورة جيداً.. فرغم فظاعة المشهد، دخل النظام مذبحة حماة الثانية وهو في حال استنفار قصوى وبدأ سلسلة القصف الذي ذهب ضحيته أربعمائة شهيد في الساعات الأولى كسيناريو يستدعي مذبحة حماة الأولى التي تنتهي في تقديره بإخضاع الشعب كاملاً وبدأ تصفية الثورة السورية.. فما الذي جرى..؟ من الواضح أنّ هذا البعد الذي صنعته الثورة في رسالتها الكبرى قُرئ وفقاً للمدار الذي قدّمناه وهو أنّ السلاح المركزي للنظام وهو القتل يفشل وبالتالي كان تأكيداً لهذا المعنى أن تأتي رسالة الفزع من أكثر عواصم العالم دفاعاً عنه بعد طهران وهي موسكو، فهل كان موقف الرئيس مدفيدف شخصياً الذي أعلنه للرئيس الأسد وكأنّها رسالته الأخيرة بسبب تأثّره على دماء شهداء الشعب السوري أو وحشية المجازر ..؟خلال ساعات بل وخلال قصف النظام لحماة وأدائه التنفيذي للمذبحة كانت حمص في برنامج العصيان العام وتشهد أحياؤها حركة احتجاج واسعة حتى ما بعد العيد، حيث نكتب، ورغم أنّ النظام كان قد بادر باجتياحها عسكرياً إلاّ أنّ حركة التصعيد الاحتجاجي جاءت قوية في حمص واستطاعت أن تُنظم حركة مشاغلة وهذا المهم في خريطة الإنهاك الثوري للنظام في ذات التوقيت لمذبحة حماة، وساعات أيضاً صعدت فيها دير الزور وهي من أقوى مناطق المقاومة المدنية للنظام فانتقل إلى دير الزور مع بقاء قواته في حماة، وخاضت دير الزور معارك فدائية بصدور أبنائها السلميين الذين خرجوا تحت القصف الثقيل في ظهيرة رمضان يتظاهرون ويطالبون بقوة بإسقاط النظام، ثم تحرّكت «الرستن» مع بقاء التظاهرات مستمرة جزئياً في حمص وفي دير الزور وقام الجيش أيضاً باجتياحها، ثم انتقل التمرّد الاحتجاجي الفدائي إلى معرة النعمان وقصدها الجيش والشبيحة.. كل ذلك خلال أيام، ولم يتمكّن النظام من تحقيق أي نسبة من انتصاره على الثورة بمذبحة حماة الثانية بل فاجأته الثورة في مدن عدة من جديد بحركة فدائية استشهادية اجزم بأنها الأبرز في تاريخ الثورات العربية المعاصرة. وهكذا أضحى النظام عاجزاً عن بسط إرادته على الشعب بل اشتعل جنونه أمام قرار كل شرائح الشعب العمرية خاصة الشباب الانخراط في حركة فداء لحماة أو لأي مدينة يُركّز النظام على سحقها بحيث تُحقّق الثورة داخلها مدارات انتفاضة ووحدة وطنية تضامنية أسطورية بين مدن القطر انتهت فعلياً إلى فشل النظام في آخر وأدّق واخطر دورة عنف اندفع فيها النظام وهو يعاني من أزمة عنيفة تحيط به من كل الاتجاهات، خاصة حركة التمرّد العسكري للمجندين والانضمام إلى طلائع الضباط الأحرار المنشقة رفضاً لسياسة القتل والتي أسهمت اشتباكاتها البسيطة في تشتيت حراك الجيش واضطرابه وقد تعرّض عدد منهم للتصفية، أي بالمنظور الاستراتيجي الدقيق إنّ إفشال الثورة لقرار سحق أي من مدنها وتحوّلها إلى دورة كفاح سلمي وتنافسهم في تقديم الشهداء حقق في المدار الأخير نصراً استراتيجيا هو الذي أعطى رسالة للعالم والمحيط الإقليمي العربي والتركي والدولي بأنه لا سبيل لسحق الثورة السورية، حيث آمن المراقبون السياسيون وجهات الرصد الدولي والسياسي بأن قرار هذه الثورة مستقل بإرادة وطنية فدائية لا تخضع مطلقاً لأي محاصرة أو ضوء اخضر أُعطي للنظام في كل مدارات الثورة، وان الإرادة المنتصرة كقراءة سياسية للمراقبين هي إرادة الثورة ميدانياً وبالفعل ظهرت آثار هزيمة إرادة النظام بعد جمعة «إن الله معنا» وأضحى مكشوفاً استراتيجياً أمام انتصار الشعب ففهم العالم الرسالة سواءً كان متضامناً أو براغماتياً مصلحياً وهم الغالبية العظمى. ومن الواضح أنّ هذا البعد الذي صنعته الثورة في رسالتها الكبرى قرئ وفقاً للمدار الذي قدّمناه وهو أنّ السلاح المركزي للنظام وهو القتل يفشل وبالتالي كان تأكيداً لهذا المعنى أن تأتي رسالة الفزع من أكثر عواصم العالم دفاعاً عنه بعد طهران وهي موسكو، فهل كان موقف الرئيس مدفيدف شخصياً الذي أعلنه للرئيس الأسد وكأنّها رسالته الأخيرة بسبب تأثّره على دماء شهداء الشعب السوري أو وحشية المجازر ..؟ الفهم الأولي لطريقة الروس في إدارة علاقتهم مع حلفائهم الذي يدركه كل المراقبين يعلم أن الروس لا يُبالون بالدماء مقابل مصالحهم، إنّما أيقنوا أنّ سلسلة المجازر التي نفذّها النظام في حلقته الأخيرة كانت في سياق جنوني يُعجّل بصورة كارثية عليه عوامل السقوط في مواجهته لقوة الإرادة الشعبية، وبالتالي أيقن مدفيدف أنّ الحليف الأحمق يَهدم بناءه الأخير بيديه فوجّه رسالته لبشار شخصياً منذراً بمستقبله الحزين.. وللحديث بقية..