قد يحسب قراء كثر أن العنوان نشاز على مقالات جريدة رصينة عرفت بنشر الفكر والثقافة وهموم المواطن الملحة . لكن هذا العنوان يحكي \" حالة \" تعيشها مدينتا لايفصح عنها إلا حال الفن بألوانه .. من المسرح والرسم والتصوير والفنون الفلكلورية والصناعات الفنية المعبرة عن روح الحياة النجدية .. ولايخفى سبب رئيس في اختفاء الفن الطربي وانزواء أهله في الحفلات الخاصة أو إبحارهم في اتجاهات وبيئات حاضنة تتبناهم فيفخر بهم – بعد ذلك – طاردوهم بأنهم \" من مدينتنا \" ، والأصل أن هؤلاء حفروا مستقبلهم بأظافرهم وانتصبت قاماتهم بعنتهم وهروبهم من جحيم المقت الكاذب والنظرة المريضة للفن الذي هو روح الحياة وماؤها .. صديقنا الفنان عزازي .. عبدالعزيز السلمان يمتلك أنامل ناحلة ساحرة رقيقة كالحرير تداعب العود بحركة فطرية كأطراف الأخطبوط انبجست من أعماقه المثقلة بالنغم وترف الصوت الموتور بالأوجاع فاستحالت النوتة متواليات لانهائية من ألوان قوس قزح الطرب .. فقط حينما يعزف وبشهادة أساطين الفن والعزف والطرب ! وماقدرته على عزف صوت \" صفارة الدفاع المدني \" إلا شاهد على عمق الهندسة في اختراع الصنعة الصوتية التي تحكي الحياة بوجعها وفرحها وأشجانها المموجة بحالات النفس كما هي الأوتار الملونة بدرجات الحياة فهو \" سيد الأوتار \" .. فمرة أثار الدهشة في حلقة فنية في مهرجان صيف أبها بقدرته على العزف الرائع فذكرني بالموسيقار والمثقف العراقي نصير شمه الذي عزف بمقطوعاته الموسيقية حياة الإنسان العربي فصورها بألحان مجسدة للحدث ليتمثل شاهدا لاتفر منه حواسك حتى يبقيك صريعا مضرجا بحقيقة الواقعة المؤلمة أو الغائبة في ملكوت السر المختبئ في مجاهيل النفس الإنسانية المعذبة .. هكذا في الموسيقى والعزف فقط لا الغناء الذي يتخيله بعض من متعاطي الفن ضرورة التحليق بأصواتهم الفجة مقارنة بعزفهم المدهش .. لكن الفنان ، أيا كان ، قدر الشهرة لايكفيه في كونه فنانا ، فالحياة الفنية ليست لعب ولهو ومعجبين يتناثرون من حوله يصفقون ويهتفون ! إن الآلة الإعلامية للفنان قد لاتسعفه في بث موهبته الغنائية ، وقد يفتقد الفنان الكاريزما اللازمة للانتشار ، وقد يقتحم الوسط الفني بلوازم متعددة للعمل الفني ( كلمات ، تلحين ، غناء ، عزف ) لحشد أكبر قدر من المؤهلات للشهرة والبروز مع أن واحدة منها تكفي ، فعبدالحليم حافظ – رحمه الله – مغني فقط ، ونصير شمه وبشير منير عازفين فقط ، وأحمد رامي شاعر غنائي فقط ، والقصبجي والسنباطي ملحنين فقط .. ومع ذلك كلهم أبدعوا في جزء لايتنافى مع طبيعة العمل الفني الذي أسهموا في نهضته فانتشلوه من قاع التخلف والركود . الفنان عزازي أكثر من الحفلات الخاصة فالتهمته الخصوصية ، وأحبطه التجاهل من الكبار ، وحاول الظهور بصوته فاختفت موهبة العازف البارع فيه ، ولو قدر له إصدار تقاسيم وخلق معزوفات تجسد أفكار محددة وأحداث راهنة ، حتى ولو كانت خجولة لأتى بما لم تأت به الأوائل ، فالفن ليس حنجرة ذهبية ولا كلمات ولاشكل جمالي وإنما هو صوت الآلة الموسيقية التي تحاكي الطبيعة والحياة وهذا مايمتلكه فناننا – فنان القصيم كما يناديه معجبوه – فعزفه على العود لايقل روعة واتقانا عن \" أخطبوط العود \" عبادي الجوهر ، وذكاؤه الفني حاد عرف منذ البداية أن قدره تلك الآلة الساحرة فأصبحت لاتفارقه .. لكن الواقع الشرس المعادي للفن عموما ينفث أنفاس الريبة على الفن وأهله فتثار زوابع الهجاء والسخط على الوسط الفني فيصدق بعض الفنانين تلك الكذبة فيستجيبون لها كما يستجيب البدوي لعقدة الجمل في الصحراء من خواجات هذا الزمان . وقد يفضل هذا الفنان العزلة للتبتل في محراب الفن بعيدا عن خلق العداوات الفيروس القاتل للفنان فتأتي الجماهير من بين يديه ومن خلفه لتسمع أعذب الأشجان مكتفيا بفعل الطرب الموهم بامتلاء زمانه ومكانه لكن الحقيقة غير ذلك .. إن العلاقات ضرورة العصر وهي النصيحة التي أكدها إحسان عبدالقدوس لعبدالحليم حافظ ، لكن العمل الفني الممتاز يسحق الساحة ولو كان قليلا ، وتهميش شركات الفن القوية للفنان لايعني إخفاقه ، لكن يبقى الفنان هو العصبة الأولى لانتشاره وتواجده بكفاحه وعلاقاته وأريحيته واحتماله حتى لو قصرت \" محطتنا التلفزيونية \" في بث جلساته ، ومن المفارقات المؤلمة أن تستضيف الفنان قنوات رصينة كالقناة الأولى ويهمله بيت تربى وعاش فيه .. ومهما تجول فناننا حول العالم واجتاح المهرجانات العربية القابعة في كل مكان سيظل ابن بريدة .. لكن من أين تؤكل الكتف ! حبيب بن أوج [email protected]