في فضاء مثل فضاء دار الاوبرا السورية، يرتاب من يدخله لحضور حفلة جاز، فهذا ليس من تقاليد صالات الاوبرا، وقبل كل شيء ليس من تقاليد الجاز، المفعم بالحرية الارتجال. لكنه لقاء استثنائي جمع جمهور دمشق بالموسيقي النروجي يوغي ويسلتوف وهو من أبرز موسيقيي الجاز المعاصرين، اسس، بعد انطلاقته مع موسيقي الجاز الشهير يان غربريك، شركته الخاصة «جاز لاند ريكوردز» محاولاً تجسيد رؤيته في طرح «مفهوم جديد للجاز»، ومستقطباً أسماء طبعها التجريب في الموسيقى. واثبت ويسلتوف (45 سنة) جدارة أضافت الى رصيده ثلاثاً من جوائز «غرامي» الموسيقية. ذياع الصيت والرصيد الغني للموسيقي النروجي، لا يجنبان من يتعرف اليه الارتياب والتحفّز. سينتظر من يراه وحيداً على المسرح، يعزف منفرداً على البيانو، موعد دخول الموسيقى الالكترونية الى المعزوفة. انه اسلوب ينتهجه ويسلتوف، وكثيرون قدموا «الموسيقى الاكترونية» وكان مردودها الفقير، غير مسألة تنفيرها، يؤخذ بشفاعة التجريب والمعاصرة. نسمع ويسلتوف يعزف على البيانو، وفي الوقت نفسه يسجل عبر مفتاح يضبطه برجله بعض عزفه على الكمبيوتر، ليتكفل بإعادة بث الموسيقى. يغادر مقعد البيانو ليلعب على آلات ايقاعية، ويسجل نغماتها ايضاً، ليعود الى مواصلة العزف على البيانو على خلفية الايقاع الذي يعاد من الكومبيوتر، وهكذا. انه يريد فعل اشياء كثيرة، معاً ووحده، مقدماً ما يشبه عرضاً، والموسيقى الالكترونية تحوله الى أخطبوط. انه الإيهام، وكلتا يديه تعزفان على البيانو والإيقاعيات معاً. لماذا يجب عليه ان يشغل احدى يديه بتكرار نغمات «الباص» على البيانو، اذا كان الكومبيوتر يستطيع فعل ذلك مفسحاً ليديه الانتقال بالمعزوفة الى افق ومستوى جديدين. ثلاث ايد على البيانو، واخرى على الايقاع، ولا بأس بيدٍ تأخذ الكومبيوتر لإعادة انتاج بعض الاصوات عبر تغليظها او تنعيمها، وفقاً لما تحتاجه المقطوعة. انه عالم ويسلتوف، الذي نكتشف شيئاً فشيئاً سحره الخاص وادهاشه. ليس على حساب الموسيقى وحساسيتها، بل في محاولة للخروج عن تقاليد لعبها، وتجاوزها لإضافة الجديد من دون مغالاة أو استعراض. منظره محركاً الادوات، ومنشغلاً بأكثر من أمر معاً، يوحي اكثر بأنه كيماوي يجهز وصفات، وكأنه في مختبر موسيقي: يضع مقادير من الايقاع، ويجهز اخرى على البيانو، ويمزجها بتحويرات الكومبيوتر الصوتية، ليولد تفاعلاً تدهشنا نتائجه. وعندما يضيف بضع كلمات بصوته، الى ذخيرة اصوات الكومبيوتر، نشعر كم ان مقطوعة مثل «singing» (غناء) تصير ساحرة مع هذه الإضافة وتكتمل بها. هكذا حوّلت موسيقى العازف النروجي المكان الى مجرد مجاز، تحولت الصالة الكبيرة، بفضائها الهائل، الى مكان حميم بفضل موسيقاه الى جانب تواضعه الفاقع. هذا التواضع ظل ملتصقاً به بعد مغادرته المسرح. يحمل عدّته بحقيبة ظهر واخرى على كتفه، ويتحدث من دون ان يلقيهما عنه. ولدى سؤاله أي مفهوم جديد للجاز أراد تمريره في تجربته الاخيرة، يقول ل «الحياة» « ان الامر يتعلق بوجوده وحيداً على المسرح، وهذا جديد عليه، عزفت في فرق كبيرة، مع آلات موسيقية كثيرة، ولكنني حاولت النهوض بالحفلة وحدي، وهذا امر افعله للمرة الاولى، انه تحد يغنيني ويمتعني». كان لوحده بمثابة فرقة جاز، فهل يشي ذلك بطموح للتخلي عن الفرقة؟ يجيب ويسلتوف بأن ذلك «صحيح الى حد ما، وهو ليس امراً سهلاً او ممكناً دائماً»، موضحاً أن كل الفكرة جاءت من عشقه للبيانو الذي اراد ان يعطيه كل المساحة ليظهر تماماً. ويضيف انه «بوجود آلات موسيقية أخرى لا يظهر صوت البيانو دائماً، وسيكون ثمة آلات أخرى تسيطر عليه». والتركيبة المعقدة للمقطوعات بالنسبة الى عازف واحد، بين اختيار الموسيقى لتلقيمها للكومبيوتر والتنقل بين ضبط البرمجة ولعب الموسيقى الحية، يؤدي الى السؤال عن مساحة الارتجال، وبابتسامة يجيب: « كله كان ارتجالاً»، لافتاً الى انه لم يتدرب على مقطوعات لتأديتها، وانما كان لديه افكاراً أساسية فقط. المقطوعات قدمها ويسلتوف من ألبومه الجديد «بلايينغ»، الذي سيصدر خلال اشهر.