•• رمضانيات: .. كان الملاحُ يجدّف بقاربه الخشبي الصغير، والعتمة بدأت تفرش ملاءتها على سطح البحر، رفع الملاحُ رأسَه للسماء، وهو يعرف أن الليلة ستكون خالية القمر والنجم، غير أن روحه كانت مغمورة بالأمان، فهو يترقب أن مرشدته وحاميته الدائمة ستكون معه بأي لحظةٍ قبل أن يُطْبِق الظلامُ على كل شيء. فجأة، ترتجف المويجاتُ الصغيرة فقد انتثرت عليها رشقاتُ من الذهب تتقافز بينها الأسماك الصغيرة بالتماع الفضّة الخاطفة، نظر بابتسامة الشاكر المنتظر ،حيث تنتصب هاديته بشموخ فوق الهضبة الممتدة، وترسل عمود ضوءها الباهر ليشق تزاحم الظلام. إنها تلك المنارة البيضاء بقبّتها الحمراء وبكشافها العملاق.. يعرف الملاحُ مطمئنا انه لن يضيع في ضوء النهار الغامر، ولن يتوه ليلاً لضوء المنارة الساهر. إن المنارةَ تمثل العدلَ بمطلقه، فقد كانت تنير، ولا تحدد لمن تنير، بنورها تسترشد اليخوتُ المتبرجة، وتسترشد المراكبُ العتيقة.. لا تفرق المنارةُ بين عظيمٍ ولا فقير، لا جبارٍ ولا حقير. ولم تكن المنارةُ ترجي شيئاً من كل مَن يهتدي بنورها، كان يكفيها البقاءُ على الهضبة الأزلية التي تصفعها الموجاتُ وترتد متكسرة من صخورها بأصواتِ الأبد.. فقط كي ترسل النور. إن المنارةَ تمثل العدلَ بمطلقه، فقد كانت تنير، ولا تحدد لمن تنير، بنورها تسترشد اليخوتُ المتبرجة، وتسترشد المراكبُ العتيقة.. لا تفرق المنارةُ بين عظيمٍ ولا فقير، لا جبارٍ ولا حقير. ولم تكن المنارةُ ترجي شيئاً من كل مَن يهتدي بنورهاوفي صباحٍ لا يمكن أن ينساه الملاحُ فوجئ وهو يجرّ قاربَه الصغير إلى البحر بشَبْكٍ كبيرٍ يتصاعد على الهضبة مطوّقا كل منطقة المنارة التي صمتت بإنكسار مهيب. وكان للشبك بوابة مشدودة بالأقفال والسلاسل، ومعلق عليها لوحة في غاية الدمامة، كُتب عليها بخطٍ كبيرٍ نافر: «إبتعدْ، المكانُ أصبح ملكيةً خاصة.» وسُجِنَتْ المنارةُ وسُجن معها نورُها. ومنذ ذاك اليوم الحزين لم يجرؤ الملاحُ على البقاء في البحر بعد الأصائل، وحُرم من صيد الليل وسكينته الحالمة.. ولم تعد تعبرُ لا اليخوتُ المتألقة ولا القوارب المتشققة. يا لعظمة المنارة، ويا لرذالة مالكها. أراد المالكُ أن يمنع الاستفادة من ضوئها، ولا يستفيد من ذلك إلا تحقيق قدرته على الإيذاء، وتعجب الملاحُ من لؤم الطبع الذي يغلبه الطمَع المُشبع بالغرور. لم يكن ليضرّ المالك لو حرّر نورَ المنارةِ لهداية راكبي البحر.. ولكن الذي كان يؤذيه هو من سيلاحظ إذن أنه موجود؟ فالنورُ يزيلُ الأنانية والتبجح، فقفل الضوءَ حتى يتساءل الناسُ: من حجب النور؟!