الأشهر الماضية أحدثت انقلاباً عميقاً في مسلّمات العلاقات السياسية للحكومات والمجتمعات في الجمهوريات العربية..وفي وقت بدت فيه حكومات مرونة تجاه حركة الشارع فحدث تغيير سريع للسلطة في تونس ومصر، تصلبت حكومات جمهورية عربية أخرى مما زاد في حنق المواطن العربي الذي يجد تناقضاً صارخاً بين الشعار الذي يتردّد في قنوات التليفزيونات الحكومية بالحرية والعدالة والديمقراطية وسعادة الناس وبين الحال البائسة، حتى تحوّل النواب في الجمهوريات العربية إلى حراس حزبيين لا غير على الرغم من أنهم يطرحون أنفسهم نواباً للناس وممثلين لهم. وفي الحقيقة أن الجمهوريات العربية، وفي وقت يكيل إعلامها ولا يزال يكيل التهم للملكيات العربية بالتخلف والرجعية، قد مارست خداعاً طويلاً للمواطن العربي وتخلف العطاء الفكري والاقتصادي والنهوض المدني فيها إلى أبعد حد، فيما تقدّمت الملكيات وأعطت لمواطنها حريات نسبية عالية القيمة ومستوى من العيش لم يحلم بجزء منه مواطن الجمهوريات العربية حتى الثرية منها مثل ليبيا والعراق اللذين تفرغ نظاماهما لترويج الشعارات والتلميع الشخصي للزعيم. ويبدو أن الفرق كان واضحاً، فالملكيات العربية تديرها بيوت خبرة وحكم مدني وتحلت بقدر لا بأس به من المسئولية تجاه مواطنيها، لهذا فإن النشاطات فيها خفيفة وملتزمة وأحياناً فردية، فيما الجمهوريات العربية يسيطر عليها عسكريون يتخبّطون في مواقفهم وإستراتيجياتهم وخططهم، وأسسوا أحزاباً على مقاسات الزعماء، وتسبّبوا في تخلف العالم العربي وفي سيادة تقاليد حزبية مقيتة وغوغائية إعلامية وعبادة مهينة للفرد. ولأن الجمهوريات في الوطن العربي هي الأكثر عدداً فإن عليها الآن، من أجل المستقبل العربي، أن تُعيد النظر في تقاليدها وأساليبها للتعاطي مع الشارع. فهذا العام هو المرحلة الفاصلة بين القديم والجديد في الوطن العربي، حيث بدأ المواطن العربي يتحرّر من الأسر الحزبي ويتواصل مع العالم ولم يعد يؤمن بالشعارات على الورق أو في شاشات التليفزيون بقدر ما يؤمن بالعمل الفعلي على الأرض، ولم يعد يعجب ببدل العسكريين ونياشينهم ونجومهم. وبراهين ذلك واضحة.. فقد استطاع المواطنون العرب كسر العزلة في أكثر الأنظمة العربية شمولية وقسوة مثل نظام القذافي، وبدأوا بكتابة تاريخ جديد وأسلوب جديد للتعاطي مع الحياة في الأرض العربية.