انقلاب العسكر في السادس من أغسطس على التجربة الديمقراطية الناشئة في موريتانيا، أعاد سؤال معضلة الديمقراطيات الناشئة إلى الواجهة. الحالة الموريتانية نموذج لواجهة ديمقراطية بدأت من قرار العسكر وانتهت على أيديهم. إنها الحالة التي تتكرر كثيراً في دول الفقر والبطالة وتراكم الأزمات المعيشية، وأحزمة الجنوب المحاصرة بضغوط التعثر، وضعف البنى التحتية العاجزة عن الحفاظ على مكسب سياسي على طريق الديمقراطية الطويل. ولذا لن يكون من المدهش أن تنقل وسائل الإعلام حركة جموع فقيرة ومعدمة من المؤيدين للانقلاب والمبتهجين باندحار تجربة الديمقراطية والجذلين باليوم الذي وطأ فيه البساط العسكري عتبة القصر الجمهوري. إنها الحالة التي تذكرنا بأن الديمقراطية عملية يسهل التنظير لها ورسم ملامحها على الورق، وحتى ضمان انتخابات نزيهة تحت نظر المراقبين الدوليين. لكنها عقدتها في الديمقراطيات الناشئة لا تبدأ من عملية اقتراع، إنها تكمن في الممارسة وحركة القوى الضالعة في المشهد الديمقراطي، ونوعية الضمانات التي تحظى بها تلك الواجهة، وعلاقتها بالمؤسسة العسكرية، ودول الجوار والقوى الدولية النافذة. الممارسة الديمقراطية في دول الفقر والجهل والتحالفات القبلية والحزبية ونفوذ العسكر وارتباطات الخارج.. تتحول إلى توظيف الواجهة الديمقراطية لتحالفات وصراعات غير ديمقراطية إلى درجة التعطيل ومن ثم فشل أو إفشال التجربة واندحار الخيار الديمقراطي. النموذج الديمقراطي الغربي المستقر مثال جميل وبراق وفعال، لكن نقل التجربة الإجرائية دون تربة هذه التجربة وحراساتها وضماناتها، لا يعني سوى إلباس تلك التجارب الناشئة والوليدة في بيئات الفقر والصراع على النفوذ والسلطة بين كافة القوى السياسية والعسكرية والقبلية لباساً لا يليق بمقاسات تلك القوى، ولا ينسجم مع وعي الشارع المحيط، وليس أكثر من واجهة متى ما بدأت تمارس دوراً يقترب من صلاحيات المؤسسات الديمقراطية، إلا وتنقض عليها القوى التي تملك الردع بالقوة حد السطو المسلح ومصادرة الديمقراطية واعتقال الرئيس وتعطيل الحياة السياسية. إلا أن الأكثر مرارة، أن تلك التجارب الديمقراطية الناشئة عندما تتعرض للانتكاسة والفشل، تعطي شعوراً عميقاً بالخيبة وتولد مشاعر مضادة لفكر الديمقراطية، وتحول دون إمكانية أن تعزز حضورها في عقل مجتمع، ناهيك أن يكون لها تراكماتها التي يمكن أن تغير خريطة التعاطي السياسي عبر واجهة الحكم الديمقراطي. الذين يعيدون فشل التجربة الديمقراطية في الحالة الموريتانية إلى عناصر الفقر والغلاء والتدهور الاقتصادي ويعتبرون تلك النتائج حاسمة في تقرير مستقبل الديمقراطية الموريتانية.. هم في الغالب يروجون بوعي أو بدونه لاستعادة حضن الاستبداد لواجهة الحكم، وكأن حكومة ديمقراطية لم يمض عليها أكثر من سنة ونصف وسط جو من الانشقاقات والتحالفات وسطوة ونفوذ العسكر كانت مسؤولة عن تراكمات ورثتها عبر سنوات طويلة من حالة التعطيل والتوقف. فشل المشروع الديمقراطي أو إفشاله يتجاوز مسألة قياس انجاز لا يمكن إلا أن يكون طريقاً طويلاً وشاقاً ومجرباً ومتراكماً حتي يمكن الحكم على صلاحيته، وهو في كل الأحوال لن يكون أقل سوءاً من الأنظمة الشمولية التي تصادر الحرية مع رغيف الخبز. في الديمقراطيات الناشئة تأتي الحكومات الديمقراطية تحت عين العسكر الذين قرروا أن تكون الواجهة ديمقراطية إلا أنهم يصرون على البقاء في المشهد ومراقبة العملية ومتى شعروا أنها تسحب البساط من تحت أرجلهم ينقضون عليها بلا هوادة بإعلان البيان الأول، مع وعد جديد بإجراء انتخابات نزيهة واستعادة الديمقراطية. في الديمقراطيات الوليدة في بلاد تعاني تردي الأوضاع المعيشية وندرة فرص العمل تكون الفرصة مناسبة لجعل تلك الهوامش الكبرى من العطالة غير معنية بالديمقراطية قدر عنايتها بالخبز والعمل والخروج من مدن الصفيح، في الديمقراطيات الناشئة تتنازع القوى السياسية مكاسب الحضور على حساب صناعة مستقبل تعطي فيه فرصة كافية للتغيير، لا أن تكون سنة أولى ديمقراطية معيار الانهيار الكبير لتجربة لم تتجاوز طور الولادة، لكن مولودها كان كسيحاً معاقاً، إلا أن الأخطر من كل هذا أن تتحول تلك التجارب الفاشلة إلى معول تقويض لفكرة المشاركة السياسية عبر واجهة الديمقراطية. وأن تصبح في الخيال الاجتماعي العام تجارب لم تحصد منها المجتمعات سوى التراجع والتراشق ومزيد من الضغوط الاقتصادية والمعيشية.. إلى درجة الترحيب بوصول العسكر حتى تجربة أخرى وفشل آخر وبسطار عسكري آخر. عذابات الديمقراطية الناشئة في بلدان لم تتجاوز شرنقة الفقر، وهي تصرح لأكثر من 16حزباً سياسياً يعني اغراق البلاد في لجة أحزاب متشابهة لا تحتاج أكثر من بضعة مؤسسين ومقر صغير وشعار لا يسمن ولا يغني من جوع، ولكنه يعيش على المعونة الديمقراطية ويعطي واجهة لا تعني أكثر من تراكم الشقاق باسم الديمقراطية، حتى أصبحت تلك الدكاكين واجهة لا غير لكنها واجهة بلا فاعلية سوى إثارة المشاكل وعرقلة المشروع والانشغال بتحالفات الفرقاء عن الانشغال بمشاكل الشارع اليومية. في الديمقراطيات الناشئة تتوالى تبريكات القوى الكبرى بالمولود الجديد، لكنها أيضاً ترمي شباكها حوله من أجل استعادته ما أمكن لحقل الصراع على المصالح وفي حالة صراع بين استعمار قديم له حضوره وبين قوى جديدة تدخل من باب حزب السلطة الجديد يبدأ صراع خفي بين القوى السياسية المحلية بالنيابة عن القوى الخارجية النافذة. ولذا ليس من الغرابة ان تظهر تقارير عشية استقالة رئيس الحكومة الموريتانية، بأن فرنسا واسبانيا أبلغتا الرئيس الموريتاني رفضهما المطلق إجراء أي انتخابات برلمانية مبكرة أو إقالة الجنرالين القويين في المؤسسة العسكرية "محمد ولد عبدالعزيز" قائد الأركان الخاصة لرئيس الجمهورية وقائد الحرس الرئاسي أيضاً، و"محمد ولد الغزواني" قائد الجيش - اللذين دبرا الانقلاب - لأن البلاد تمر بمرحلة بالغة التعقيد وتحتاج إلى وجودهما. ولم يكن المجال العربي المحيط بموريتانيا بعيداً عن صورة التدخل لافشال مشروع وليد ولذا لا غرابة ان تظهر تقارير تتحدث عن تلقى الجنرالين القويين دعماً معنوياً من بعض الأطراف العربية وكذلك المعنية بالوضع السياسي في موريتانيا. إن أي نجاح حقيقي لديمقراطية ناشئة هو تكريس مفهوم مختلف وجذري في التعاطي السياسي في منطقة تعيش حالة صراع وتبحث عن نظم حليفة ولا تعنيها المسألة الديمقراطية من قريب أو بعيد. لا أريد الغرق في تحليل المسألة الموريتانية إنها ليست أكثر من حالة استدعاء تستحق التحليل للبحث عن عناصر الفشل وعوامل التقويض والأخطر من هذا تكريس فكرة ان الديموقراطية عملية غير صالحة لشعوب مازالت تعاني من التخلف والفقر والبطالة والصراعات الاثنية. النظام الديمقراطي ليس أفضل النظم السياسية لكنها أقلها سوءاً على الاطلاق، ولذا لن يكون النظام العسكري مهما بلغت قوته ودرجة قدرته على تحقيق منجر اجتماعي أو اقتصادي سوى بوابة كبرى للتعطيل بكل أنواعه. ومهما كان النظام العسكري قادراً على ضبط الأمن أو محاصرة أسباب الانفلات في الشارع، فهو لن يكون أكثر قدرة من النظام الديموقراطي على تعزيز فكرة الحراك الاجتماعي والسياسي الايجابي ومراكمة الخطأ والصواب في التجربة الديموقراطية. التجربة الديمقراطية مفتوحة إعلامياً وسياسياً لدرجة انكشاف كل قراراتها وسياساتها أمام البرلمان والشارع والصحافة ومع مساحة الحريات التي تمنحها لكل أولئك الفاعلين تظل تحت مجهر النقد، والنقد الذي يتجاوز أحياناً حتى أدبيات النقد لمستوى مراكمة ملامح الاخفاق لتصبح جبالاً من الانهيارات المتوالية. بينما النظام الشمولي يخفي كل اخفاقاته تحت معول قمع الحريات ويسخر كل مقومات النظام لحمايته من النقد ويعزز مفاصل المؤسسة الأمنية لمواجهة المخاطر التي تحيط به. النظم الشمولية التي جاءت تحت بسطار العسكر وبياناتهم الأولى هي الأقدر على الحفاظ على هيبة النظام وربما الأمن بمفهومه السياسي لكنها أعجز من ان تكون أكثر قدرة على اجتراح معجزة نهوض أو تنمية أو بناء، ولذا تلجأ بين وقت وآخر للسياسيين المدنيين وتحاول ان تجمّل مشروعها عبر انتخابات تفصل على مقاسات يضمن الأمن للنظام والواجهة السياسية للقوى المتعاونة لكن التجربة لم تحقق سوى مزيد من التورط في مشكلة الفقر والبطالة والتخلف والتراجع. عندما قرر الجنرال محمد الفال ان يقدم تلك الفرصة الذهبية لموريتانيا لتجربة سنة أولى ديمقراطية كان التركيز على شفافية الانتخابات وسلامة الإجراء الانتخابي لكن تلك التجربة كانت تحتاج حراسة، وحراسة النظم الديمقراطية المعني بها الشعب الذي لا يمكن ان يقبل فكرة السطو المسلح على السلطة، لكن الديموقراطيات الناشئة غالباً ما تكون الحراسة بعهدة الجيش والجيش لم تتبلور مفاهيمه المؤسسية عن قناعة بقيمة الديمقراطية وحراسة مكتسباتها إنها شهوة السلطة ونفوذ القوة التي طالما رأت نفسها وصية على سياق ديموقراطي لا يأخذ مجراه مؤسساتياً بل يتعرض لانتكاسات عبر قلب التجربة على رؤوس الجميع. الدرس الكبير والمهم ان حراسة التجربة الديموقراطية تأتي من الجماهير أولاً، والجماهير المعدمة والفقيرة والمحبطة والعاطلة لا تقوى عن الدفاع عن تجربة لم تقدم لها الخبز والعمل والكفايات بعد. لكنها لو أدركت ان الخيار البديل لن يكون أفضل حالاً وسيكون أكثر عتمة لما خرجت تهلل لانقلاب البسطار العسكري. والدرس الآخر ان تلك النظم الديمقراطية الناشئة لا يمكن لها ان تقوى أو تستمر في حال وجود مؤسسة عسكرية وصية أو تحافظ على نفوذها أو تقف في مشهد التدخل السريع والحاسم عبر الانقلاب في حال تعارض الديمقراطية مع مصالحها. وتلك خطيئة البناء الديمقراطي الهش الذي يصنعه العسكر وينقلبون عليه.