إن كان هناك مسمى لهذه الحقبة من الزمن، فهي بحق حقبة الابتعاث والمبتعثين، فالمتأمل يجد انه لم يمر على مملكتنا زمن وحكومتنا لديها ما يقارب من ربع مليون مبتعث ومرافق في مختلف دول العالم، وتضم الولاياتالمتحدةالامريكية 82544 مبتعثا ومبتعثة بما يعادل 54٪ من اجمالي عدد المبتعثين في العالم، ولقد رعى وزير التعليم العالي حفل التخرج للدفعة السابعة من برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي في الاسبوع الماضي، في حفل بهيج اقامته الملحقية الثقافية في سفارة خادم الحرمين الشريفين في امريكا، ولقد زف معاليه 12500 خريج وخريجة للوطن. في الطفرة الاولى التي مرت على بلادنا، وكانت في عام 1975م، وهي اول سنة بدأ فيها الابتعاث بشكل واسع، لكن لم تكن البعثات بهذه الاعداد الغفيرة، وكان جلها لدراسة البكالوريوس، وكانت البعثات تقريبا في اي تخصص؛ نظراً لحاجة الوطن لكل التخصصات، ولكن لسوء الحظ لم تستمر بعثات وزارة التعليم العالي لفترة طويلة، ربما هؤلاء الشباب والشابات متحمسون وطموحون، وأتمنى عندما يعودون إلى أرض الوطن أن نفسح لهم المجال ليعملوا ويبدعوا، وأن لا نقف حجر عثرة في طريق طموحهم لعدم وجود وضوح في الرؤية في ذلك الوقت، وربما لانحسار زمن الطفرة. وبعد الطفرة الاولى انحصر الابتعاث في وزارات الدولة المختلفة وأصبح الابتعاث رهين قناعات اصحاب القرار في تلك الوزارات، فالبعض من هؤلاء المسئولين - ولا احتاج من يخبرني فلقد عشت هذه التجربة في منتصف الثمانينيات من القرن السابق - كان لديه قناعة بأن المملكة اصبحت قلعة العلم ولا نحتاج الى الابتعاث، والبعض الآخر كان يتصرف ويتخذ القرار كأنه يصرف من ماله الخاص، والبعض الآخر يتعامل مع طالبي الابتعاث بعقلية مغايرة. ولقد تعثرث قرارات ابتعاث الكثير من راغبي الابتعاث في ذلك الوقت؛ بسبب اصرار وزارة التعليم العالي على ان تقوم الوزارات بتحويل المبالغ التي ستصرف على المبتعثين الى حساب وزارة التعليم العالي قبل اصدار قرار الابتعاث. والشاهد في الموضوع هو ان المبتعثين ايام الطفرة الاولى وما تبعهم من اعداد قليلة بعد الطفرة، تم استيعابهم في مؤسساتنا الحكومية وجامعاتنا، واسهموا بما استطاعوا في تنمية ونهضة بلادنا، لكن من وجهة نظري، فإن تأثيرهم كان محدوداً لاسباب عديدة لا مجال لحصرها الآن، خصوصاً من كان عمله خارج الجامعات. ونحن الآن نعيش بحق حقبة المبتعثين، فهاهم يعودون الى الوطن بأعداد غفيرة وقد تسلحوا بالعلم، ليشاركوا أبناءنا من خريجي جامعات الداخل في بناء وطن عظيم. والمبتعثون هم ابناء الوطن المخلصون الذين يعيشون غربتهم وعيونهم على الوطن وانجازاته، ويحلمون بالساعة التي ينهون دراستهم بنجاح، ولقد كان لي شرف حضور حفل تخرج جامعة شابمان بولاية كاليفورنيا، هذه الجامعة العريقة التي تم تأسيسها في عام 1861م، اي قبل اكثر من 150 سنة، وكان لي شرف الالتقاء بالخريجين والخريجات، وهم بحق أمثلة مشرفة لأبناء الوطن البارين، وكلهم يتطلعون للعودة للوطن، ولقد رأيت مقدار تعلقهم بالوطن، فهم يعرفون كل ما يدور في الوطن من احداث، بل يتابعون من جوالاتهم ما نناقش في صحافتنا المحلية. والمبتعثون يعيشون تجربة مختلفة عن نظرائهم الذين يدرسون في جامعات الداخل، فهم ينهلون العلم من منابعه، ويتعلمون لغة علوم العصر من مصدرها، وهم يشاركون في انشطة جامعاتهم ولهم نواديهم ولهم منتدياتهم ولهم صحفهم الالكترونية، انهم يشكلون ثقافة متكاملة وتجربة حضارية فريدة من نوعها لا تكاد تتكرر، والوطن بكل فئاته ينتظر اسهاماتهم لينقلوا لنا ما اكتسبوه من علوم وتحضر، وكم كانت فرحتي أكبر عندما رأيت مسجد المدينة يزدحم بالمبتعثين، فهم (ولله الحمد) يجمعون بين خير الدنيا وخير الآخرة. هؤلاء الشباب والشابات متحمسون وطموحون، وأتمنى عندما يعودون الى ارض الوطن ان نفسح لهم المجال ليعملوا ويبدعوا، وان لا نقف حجر عثرة في طريق طموحهم، وأن لا نثبط عزائمهم، بل نوفر لهم كل السبل التي تعينهم على اداء مهماتهم وعلى أكمل وجه. انها فرصة ذهبية لوزاراتنا المختلفة بأن تنتهز فرصة عودة المبتعثين، بأن تطور اسلوب العمل فيها بما يتناسب مع معطيات ومقتضيات العصر، وأن تُحدِث من أنظمتها التي أكل الدهر عليها وشرب. وإني أتطلع الى اليوم الذي أرى فيه بصمة المبتعثين وقد طُبعت على كل انجاز حضاري في بلادنا، والله آسأل ان يحفظ قائد مسيرتنا خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، الذي سخر نعمة الله التي حباناها الله إياها لبناء المواطن وتأهيله من خلال برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي. تويتر @IssamAlkhursany