مجذوبًا بغوايات الصِّبا في ميعةِ أيَّامِهِ، كان ثَمَّةَ ارتجاجٌ في دماغ الفكرة التي أحملُها عن النساء، بسبب خوفي من أن أتعثَّر بحجرِ الشرف المزعوم. عبثًا أدَّعي أنّ كلَّ امرأةٍ تخبِّئ سورةَ (يوسف) في جيبها، إلا أمِّي فهي تخبِّئ في جيبها سورة (الإخلاص). لاطفتُ الحزنَ طويلًا وحينما ضاقت الأرضُ من حولي بعالمها، بنيتُ بيتًا في نفسي وأسكنتُ العالمَ فيه، وسمَّيتُهُ: الشعر. وعندما أصبح عدد الغرقى داخلي أكثر من زوارق النجاة، لم أملك إلا أن أحملهم على أخشاب الكلمات أمِّي هي الشجرة التي تحتفظ بخضرتها طوال العام، مهما تغيَّرتْ عليها فصولُ الزمن، وتبدَّلتْ مواسمُ الحياة. أُمِّي هي النخلة التي لا تفقد ذاكرتَها ولا صورتَها المتوهِّجةَ في مرآةِ الوقت.. أُمِّي هي شجرة السلام التي تعرج منها عصافير الأمل إلى آفاقي كلَّما تكثَّفتْ في رأسي غيومُ الكآبة. لم أكنْ في صِبايَ ملاذًا تلجأُ إليه كلُّ صَبِيَّةٍ تائهةٍ عن نصفها الآخر.. لم أكنْ كذلك، ولكنَّني كنتُ منجلًا مولعًا بكلِّ سنابل الحقل، وكانت لكلِّ الصبايا نكهةٌ واحدة في روحي؛ لأنَّني لم أجرِّب الحبَّ الذي يمنحُ للمرأةِ طعمًا خاصًّا بها. عبثًا خامرتني فكرةُ الأبوَّة مُبَكِّرًا، فسارعتُ إلى الزواج.. سارعتُ إلى هذا الطاهي الماهر الذي يحوِّل الحياة إلى مجرَّد أسماكٍ مثلَّجةٍ ويطبخها لي كلَّ يومٍ، ثمَّ يقدِّمها نَيِّئَةً من فرط ما هي مفعمةٌ بجفاف المشاعر. لكنَّني رغم ذلك الجفاف الشعوري، أثقلتُ صدرَ الأرض باثنيْ عشرَ طفلًا فَرَّخْتُهُمْ على عجل، فزاحمتُ بهم البشريَّة وأضفتُ عَبْرَهُمْ آلامًا جديدةً إلى هذه الأرض التي فاضتْ بإنتاجي فتَأَلَّمَتْ أكثر. وأدركتُ بعد فواتِ الأوانِ أنَّ التفريخَ ليس إلا طريقةً جميلةً لصناعة الألمِ على الأرض، وربَّما يكون طريقةً صالحةً لإضافة الخراب إلى الأرض أيضا. هكذا أصبحتْ شجرةُ عائلتي كثيفة الأغصان، ولكن لا تغنِّي عليها الطيور من فرط ما استعمرني اليأس. لاطفتُ الحزنَ طويلًا وحينما ضاقت الأرضُ من حولي بعالمها، بنيتُ بيتًا في نفسي وأسكنتُ العالمَ فيه، وسمَّيتُهُ: الشعر. وعندما أصبح عدد الغرقى داخلي أكثر من زوارق النجاة، لم أملك إلا أن أحملهم على أخشاب الكلمات آملًا أن أصل بهم إلى الشاطئ. هكذا عبرتُ بنهر حياتي الماضية عبور الظلال، لم أزعجْ أحدًا ولم أتحوَّل إلى شبحٍ يفزعُ المكان. ولكنْ كلَّما لاحَ لي برقُ القصيدة وأضاء الفضاء، لم أكتشف في غمرته إلا حجم عتمتي وسوادي.