توطئة بين يدي المأزق: تُرى هل جرب أحد منكم أن يقسم أباه شطرين: أب وإنسان، ويكون لكل منهما رأس مستقل، فيعمد إلى الشطر الأول (الأب) فيقبّل رأسه.. ثم يعمد إلى الشطر الثاني (الإنسان) فيفتح رأسه ثم يعبث بالسجلات والأشرطة والوثائق الخاصة بالشخصية الإنسانية (البشرية) لأبيه. ستقولون: هذه أسطورة أو خرافة.. وسأقول بل الأسطورة أو الخرافة هي أن يتحدث إنسان عن أبيه بمعزل عن أبّوته!! هكذا وجدت نفسي في صراع مع أسطورة من أجل الكتابة عن "عبدالله بن إدريس" كأديب لا أب! ولقد أيقنت قبل الشروع في هذه الكتابة - المأزق - أنني سأخرج مسخوطاً عليّ لا محالة.. على أي جنب كان رأيي في أبي! فإن أثنيت عليه فسيقال: وهل كان يُتوقع من ابن أن يقول في أبيه غير الثناء.. كل "فتى" بأبيه معجب! وإن قدحت فيه فسيقال: أعوذ بالله.. أيّ عاقّ هذا الابن، تبّاً لهذا الادعاء بالموضوعية، حقاً.. إذا لم تستح فاصنع ما شئت! فإذا كنُت سأخرج مسخوطاً عليّ من القراء لا محالة، فإني أرجو أن لا أخرج مسخوطاً عليّ من أبي.. ثم (فيغفر ما دون ذلك لمن يشاء)! (1) أتاحت لي فرصة الاطلاع المتوالي والمراجعة المتكررة لمسودة (الأعمال الشعرية الكاملة لعبدالله بن إدريس)، التي تصدر بإذن الله بالتزامن مع احتفال مهرجان الجنادرية لهذا العام، أن أتعرف إلى شخصية عبدالله بن إدريس. هل يُعقل أننا لم نفطن من قبل إلى أن (الأعمال الكاملة) لأي شاعر أو قاص هي التي تكشف عن شخصيته، وهمومه، وقضاياه الملاحقة له، من دون أن يشعر ربما الأديب نفسه بهذه "الالتصاقات" التي قد لا يراها.. فيما يراها الناس من حوله؟! سأزعم هنا بأن ترتيب قصائد (الأعمال الكاملة)، ولأي شاعر، حسب تواريخ كتابتها، وليس حسب موضوعاتها أو نزولها في الدواوين، هو الذي يصوغ صورة سيكولوجية لشخصية الشاعر، حسب مراحل عمره، في قلقه وهمومه ونزواته ورغباته وامتناعاته ورضاه وسخطه. من خلال قصائد (الأعمال الكاملة)، التي يمكن وصفها بأنها "سيرة ذاتية" كُتبت، عفوياً، بالشعر بما هو أحرى صدقية.. من كتابتها نثراً، يمكن من خلال أعماله الكاملة التقاط أكثر من (بروفايل) لابن إدريس. السمة الأبرز هي النزعة الدينية المنسابة في شعر ابن إدريس منذ "صبوات" الشباب حتى وقار الشيخوخة. تديّن يراوح بين السلفية الساكنة حتى يتصاعد أحياناً إلى ما يشبه الشعر الصوفي في تجلياته التأملية. يبدو هذا التدين جلياً في قصائد مكرسة، وأبيات عديدة متناثرة بين القصائد الأخرى. بل إن التدين يلازم ابن إدريس حتى في بعض قصائده الغزلية!! وهي ظاهرة لافتة لشاعر استطاع أن يزاوج - دون تناقض - بين "تواجده" الشرعي، ووجدانه الشعري. وسألتقط من الأعمال الكاملة، درءاً للاطالة، صورتين للشاعر من (ألبوم) قصائده، هما زورقه البحري وشموخه الصحراوي. (2) سألني أحد النقاد يوماً: هل سبق أن عاشت أسرتكم خارج "نجد" وبالتحديد في مدينة بحرية بعيدة عن مدن نجد الصحراوية؟ أجبته ب "لا" فأبدى استغراباً، لكني ألحقته باستغرابي من سؤاله؟ فقال: أردت أن أعرف من أين جاءت هذه اللغة "البحرية" عند والدك الشاعر عبدالله بن إدريس. فأشهرُ قصيدة كتبها هي "في زورقي"، وهي قصيدة مملوءة بالأمواج والزوارق والأعاصير والأشرعة، وقد جعلها اسم ديوانه الأول "في زورقي". ثم صدر ديوانه الثاني بعنوان "إبحار بلا ماء"، فما حكاية هذا الشاعر الصحراوي مع البحار؟! كانت ملاحظة هذا الناقد السوسيولوجي بحق مفاجأة لي، لم أفطن إليها من قبل، وستكون حتماً مفاجأة لآخرين غيري. وأردت أن أغمس هذا الناقد الفطن في العجب أكثر، فقلت له: سأزيدك من شعر أبي بيتاً، فعبدالله بن إدريس لا يعرف السباحة، لا في الآبار ولا البحار ولا المسابح، على امتداد المسار الاجتماعي الذي يمر به سباحو الصحاري في ممارستهم السباحة، كما أني لا أظن أن عدد المرات التي ركب فيها أبي خضم البحر تتجاوز عدد مرات ركوب الأوروبيين الجمل! عندما قذفت هذه الأسرار العائلية إلى الناقد المحتار زادت حيرته وقال: إذاً ما الحكاية، من أين جاءت هذه اللغة البحرية لشاعر صحراوي؟! قلت له: هذا دوركم أنتم وشأنكم حين تنبشون عما وراء الكلمات. قراءتي للأعمال الشعرية الكاملة أثبتت لي أن هناك سرّاً بحرياً في أعماق العقل الباطن لابن إدريس! فالنزعة البحرية لا تتوقف عند أسماء الدواوين فحسب، لكنها تجاوز ذلك إلى أعماق الشاعرية المتفاعلة مع الكون المحيط، فالأعمال الكاملة لن تجد فيها كلها لشاعر نبت في الصحراء، سوى ثلاث قصائد بصوت الصحراء هي: (جولة في روضة)، و(فجر الربيع) و(أزهار)، وسنلاحظ أن تلك القصائد لا تتحدث عن مكان بعينه، يسمّيه الشاعر ويتغزل به، كما يفعل الشعراء مع رياض، وفياض، وصحاري، وجبال تستهويهم باسمها وشخصها. ولو كان ابن إدريس استمر على هذا النهج التعويمي في التأمليات، لكان هذا هو خطابه الشعري الذي سنألفه، لكن الأعمال الشعرية تنطوي بالمقابل على ثلاث قصائد رسخها الشاعر لبحيرات التقاها مصادفة أو عابر سبيل: (بحيرة تانجنيقا) و(بحيرة فيكتوريا) و(بحيرة ليكتوبا)، ولم يدّخر الشاعر من معاني وصور التأمل والتغزل شيئاً إلا وأغرق به تلك البحيرات. بربّك يا (تانجنيقا) انثري أحاديث عن كونك المبهر لماذا عليك السحاب انثنى ومنك ارتوى بدل الممطر؟ بلغتٍ من الحسن أقصى مداه فهل خلف ذلك من مخبر؟ خُلقتٍ مع الدهر في فجره فشاخ الزمان ولم تكبري ويقول عن بحيرة فيكتوريا، وبنفس القافية: فمنها الحياة وفيها الجمال وفيها محاسن لم تذكرٍ فإني صريع هوى عارمٍ لكل جميل العطا خيّرٍ وإني أهيم بأسمى الخِلال وفيك أرى روعة المنظرٍ أما بحيرة ليكتوبا، المنزوية في دهاليز جزيرة سومطرة، فقد حظيت من الشاعر بأكبر الاعجاب والعشق: سعداً للكتوبا البحيرة لو حكت عن حسنها المسكون في الأحقاب الله أنبتني بحضن (سُمطرةٍ ) وأحاطني بجداول وهضاب وقد احتلبت من السماء نطافها وحشدت فيها جوقة الاصحاب ولبست من حلل الجمال جميلها وفتحت للخطّاب أوسع باب وعرضت في طُهر الزمان مفاتني وحمدت للرحمن صون شبابي إني لأعجز أن أصوغ حكايتي وصفاً يحيط بإذفري وملابي كأن ابن إدريس لم يتشبع بالمديح الذي سكبه في قصيدته تلك، فختمها ببيت اعتذاري يعجز فيه عن صوغ حكاية البحيرة التي فتنته. وملمحٌ بحري آخر في شعر ابن إدريس يجاوز القصائد الكاملة إلى المفردات المستخدمة في قصائده الأخرى، ففي أكثر من صورة شعرية في سيرته عندما يواجه مأزقاً يتطلب منه الهروب، أو الالتجاء، فإنه لا يستخدم الجمل أو الحصان كما هو ديدن الصحراويين، بل يستخدم (الزورق)، رغم علمي، كما سبق أن أشرت، بعدد مرات ركوب ابن إدريس لزورق حقيقي طوال حياته! تتجلى هذه الصورة، أكثر ما تتجلى، في قصيدته "الكبرى" التي جعل عنوانها (في زورقي): رباه بلّغ بالسلامه زورق الحلم الجميل حتى يقول: لعب الخضم بزورقي فطغى على مجرى الشعور إلى آخر القصيدة الرمزية الأخاذة. كما يحضر الزورق، وسيلة ركوب الشاعر بحور شعره وتأملاته، في مرافئ موضعية متناثرة من قصائده، مثل قوله، من قصيدة (يا كوثراً): أرنو إليك تعود اليوم منطلقاً تسقي على ظمأ شوقي وإصحاري أو لا، فخذني في أحضان (زورقنا) فما أطيق بقاءً غير زخّار وهنا لا مفرّ من تكرار التساؤل بقوة وإلحاح: ما سر العلاقة الشعرية بين ابن إدريس والبحر، خصوصاً في ظل عدم وجود علاقة حقيقية واقعية، بل شبه قطيعة بينهما؟! أنا أعرف أبي (عبدالله بن إدريس) أكثر مما يعرفه ذلك الناقد، مهما قرأ عنه وقرأ له. فأنا أقرأ عنه وله وأقرؤه بوصفي ابناً يجالس أباه أكثر من النقاد، ولذا فإنه يمكنني أن أجازف بالقول - تأسيساً على فطنة ذلك الناقد - وفي سياق تحليل تلك النزعة البحرية الطافرة إن: عبدالله بن إدريس كائن صحراوي.. بوجدان وإحساس بحري؛ ولأنه لا يخفى على هواة السوسيولوجيا الفروقات بين المزاج الصحراوي والمزاج البحري، والخطاب الصحراوي والخطاب البحري، والوجدان الصحراوي والوجدان البحري، فإنني أملك الحق بالزعم - بحكم خبرتي الشخصية في تعامل ابن إدريس مع أبنائه وأسرته وأصدقائه، وبحكم معرفتي بمواطن ومواقيت دموع ابن إدريس - أن أقول إن ابن إدريس يملك جسداً صحراوياً ليس فيه زعانف، أو خياشيم تمكنه من السباحة، لكنه يملك قلباً بحرياً رطباً ندياّ لا يعتريه الجفاف أو التصحر. ولذا فلا عجب أن تكون دموع ابن إدريس وافرة، فهي لا تخرج من جسده الصحراوي، بل من وجدانه البحري. ولا عجب أن تكون مقالاته صارمة وحادة، وأن تكون قصائده وجدانية رقيقة، فهو يكتب مقالات صحراوية، وقصائد بحرية، ولعل مقالته الشهيرة (حتى لا نمشي على الشوك) نموذج ساطع، فهو في المقالة يوظف "الشوك" وفي القصيدة يوظف "البحر"! وابن إدريس البحري، كثيراً ما يوزع "قوارب النجاة" على المعارف والأصدقاء الذين يطلبون مساندته في إنقاذهم من طوفان الحياة بالدعم والتوجيه والشفاعة. وقصيدته "في زورقي" كانت هروباً من فخ صحراوي، فقد لجأ إلى زورقه وهرب به إلى البحر، وهو ينادي بأعلى صوته كي يبلّغ موقفه إلى الصحراء: والحرّ يمقت عيشة يبقى العزيز بها ذليل رباه بلغ بالسلامة زورق الحلم الجميل فهل سمعتْ "الصحراء" ووعت تلك الصرخة القادمة من "بحر" نجد؟! (3) والآن إلى شموخه الصحراوي.. ينشغل الشاعر عبدالله بن إدريس، حدّ القلق أحياناً!، بمبدأ العزة والكرامة والترفّع والشموخ. من العيب أن أقول بأني لم أتعرّف إلى هذه الخصلة في أبي إلا اليوم، بعد 48 عاماً من العلاقة الأبوية والصداقة الأدبية، لكني سأعترف من دون خجل بأني لم أكن أتخيل أنها تشغل هذا الحيز من ذهنه ووجدانه، كما رأيت واكتشفت في (الأعمال الكاملة) التي جمعت أمامي في قالب واحد كل ترددات هذا المبدأ الساكن، من السكنى لا السكون، في نفس ابن إدريس. ذروة التنفيس الشعري عن هذه الخصلة تمثلت في قصيدته الكبرى والأثيرة، عنده وعند كثير من قراءه في متانتها سبكاً وحبكاً.. فنياً وموضوعياً، قصيدة (في زورقي) التي كتبها الشاعر عام 1376ه أي حين كان قد بلغ من العمر 29 عاماً، وهي أتت بعد أزمة ثقة تعرّض لها الشاعر/ الطالب في كلية الشريعة واللغة العربية بالرياض مع نفر قليل من زملائه الطلاب المشاكلين له في "الأنفة" التي اشتعلت إثر "حكاية" يعرفها البعض، وليس هذا مجال سردها للبعض الآخر! يقول مطلع القصيدة: رباه بلّغ بالسلامة زورق الحلم الجميل فهنا أعاصير الشقاء تفحّ من خلف الأصيل وهنا شراعي لامس الموج المجنّح في ذهول وتلفّت القلب الشجيّ فهاله الأمس الثقيل فإلى الأمان لشاطئ نتنسم الريح العليل ثم يقول، ملمحاً، في سياق مقطع آخر: والحر يمقت عيشة يبقى العزيز بها ذليل رباه بلغ بالسلامة زورق الحلم الجميل لكنه ينطلق بعد ذلك مشهراً سيفه الشعري، بكل وضوح: أنا ما حييت فشيمتي تأبى التملق والخداع هل مبدئي غير الصراحة والنزاهة في الطباع إن كان رزقي يقتضي مني خنوعاً وانصياع فعلى الغنى مني السلام وبؤس للمجد الأثيل رباه بلغ بالسلامة زورق الحلم الجميل ويؤكد لمن لم يدرك رسالته الملتهبة: أبداً أصون كرامتي رغم الصعاب العاتيات لن أنثني عن مبدئي فالحق أجدر بالثبات ومكاره الايام تصنع في الرجال المكرمات فلتجر بي يازورقي كي نعبر البحر المهيل رباه بلغ بالسلامة زورق الحلم الجميل وقد نعجب لشاب لم يبلغ الثلاثين من عمره بعد، أن يكتب شعراً بهذا النَفَس الثوري الحارق، ونحن هنا لا نغفل عن السمة الثورية المألوفة لهذا السن، سن الشباب المشتعل، لكننا من جانب آخر نستحضر أيضاً سمة الطموح والصعود عند هذا العمر البادئ للتو، صعود سلّم الحياة، فلماذا يتخلى ابن إدريس باكراً عن بعض عتبات السلّم الذي ينبغي أن يرتقيه مع أقرانه من الطلاب، لا أن يرتقوه وحدهم ويبقى هو في زورقه! لكن قصيدة (في زورقي) ليست حالة طارئة أو نزوة عارمة، فالشاعر نفسه في قصيدة أخرى (مع الليل) كتبها في نفس العام الذي كتب فيه (في زورقي) عام 1376ه، يقول: يا ليل لا أنفكّ أكتب جاهداً فيك القصيد لبالي المكسور ألِحظّي المنكود أرسل زفرتي ويموج قلبي في لظى وسعير أم للحياة إذ انطوى إنصافها بين اللبيب وجاهل مغرور حتى يقول بنبرة حزينة محبطة، لا تليق بذلك العمر: يا ليل حظي في الحياة كقطعة منسوجة من وجهك المنظور لم أجن من متع الحياة وسيبها إلا نقاء سريرتي وضميري اليس مبكراً لشاب مازال في مقتبل العمر أن يحكم بما جناه من متع الحياة؟! لكنه العنفوان الذي يستبق الأحداث والعمر المديد بقولٍ ظاهره: لم أجنِ، وباطنه: لن أجني..، باعتبار ما سيكون بناءً على معطيات طبائع الشاعر. والذي يبدو، من خلال قراءتي الأعمال الكاملة لابن إدريس وصحبتي الكاملة لمسيرة حياته، أو بالأصح مسيرة حياتي معه، أنه قلق من الصورة النمطية للشاعر في الثقافة العربية، فالشاعر عند العرب هو الذي يمدح طمعاً في العطايا ثم يقدح طمعاً في المزيد من العطايا، ولا يغيب عن ذهن ابن إدريس، وهو الذي نشأ في بيئة ومدرسة دينية، صورة الشعراء في الآية الكريمة: (والشعراء يتبعهم الغاوون)، فهو لا يريد أن يكون من أولئك الذين هم (في كل واد يهيمون)، و(أنهم يقولون ما لا يفعلون)، بل هو يأمل أن يكون من زمرة الذين استثنتهم الآية الكريمة ب (إلاّ...)، ولذا يأتي ابن إدريس، بعد عام واحد فقط من كتابة قصيدته (في زورقي) و(مع الليل) ليؤكد بصرامة في قصيدته (الشعر، 1377ه) الصورة التي يريد أن يصنعها لنفسه ولقارئ شعره عوضاً عن الصورة النمطية المشوهة للشاعر: والشعر نفثة شاعر للحق يثأر .. للمثل للهمة العلياء للمجد المضاع .. وللعمل فاصدح برأيك يا بطل فوق الوهاد أو القلل وأربا بنفسك أن تذلّ وإذا اعتدلت فلا تسل ويدخل الشاعر في صلب قضيته الأم، مبيناً بالنماذج بعد العموميات، كهذا المقطع المباشر من قصيدته (ما السعادة؟): قالوا السعادة منصبٌ يدني الأماني والرغابْ فيه الإغاظة للعدا فيه الكرامة للصحاب يعلي الوضيع متى غدا من حزبه فوق السحاب قلت الشقاوة ما وصفتم من أماني يا ذئاب! ويستمر ابن إدريس طوال حياته الشعرية ينثر مفاهيم ومفردات العزة، والكرامة، والشهامة، والشموخ، والإباء بين قصائده، مهما تنوعت موضوعاتها، ومضامينها. لكنه يعود بقوة إلى شغله الشاغل، حين يبلغ الخمسين، إذ بدأ يشعر بأنه قد حان الوقت كي يغرس في أبنائه ما انغرس في نفسه، ولكي يورّثهم "الكنز" الذي لم يسمح لنفسه ببيعه، ولم يسمح لأحد بسرقته أو استعارته منه، مهما غلا الثمن. يقول في قصيدته التي عنونها (بعد الخمسين)، مخاطباً أبناءه: ركضت خيول الحظ يسبق بعضها بعضاً وخيل أبيكمو لن تجفلا لا تندموا أبداً فلست بنادمٍ وسواي من تخِذ الحطام معوّلا لي مبدئي، لي عزتي، وكرامتي لا تُستذل لغير حقّ أُنزلا ثم يقول: أبَنيّ إن أباكمو لم يستطب أن يستهين بعلمه متوسلا أو يستهين بعزة موروثة تأبى المروءة أن تذل وتخذلا أو يستهين بفكره وبحسه ومواهب تبني المجادة والعلا كلا.. فلست ببائع أو مشترٍ بمبادئي.. نزل الطِمَاع أو اعتلا فرجولتي تأبى النفاق تقرباً وكرامتي تأبى الهوان تحوّلا أأذيل ما أعطى الكريم عباده لانال قبضاً أو أجوز المعضلا أنا ما خُلقت لمثل ذلك فاعذروا ولكم من الله السلامة موئلا وفي قصيدة (عفواً إلهي، 1405ه) يعبّر بإيجاز مكتنز عن إنزعاجه من تخلخل المعايير: رحماك ربي فالحياة ذميمة وأذمّ منها أن يعزّ جناة ! ويعود بعد عشرين عاماً ليشيع الصورة النمطية التي أرادها لنفسه وصانها طوال عمره المديد، عبر قصيدته التفعيلية/ الملغومة بالمعاني الرمزية، (سيفه مرقم، 1424ه) التي خصصها للحديث عن (عبدالله بن إدريس) في يوم تكريمه: راعفٌ بالمداد نفسه عفّة تأبّت عليه نزول الوهاد أيها الأفق القرمزيّ ترفّق بصحبك لا تنسهم وخذهم إلى عتبات الرشاد وهوّن عليهم صنوف العتاب إذا ما ارتضوا منك صمت الجماد فما كل أفق لهم مسعفٌ ولا كل ماضٍ لهم مستَعادْ وحين وقف ابن إدريس على باب الثمانين من عمره، أراد أن يجدد أو يؤكد من جديد صورته النمطية كشاعر غير هائم، فقال مخاطباً زميله في الهم الشاعر غازي القصيبي، ومخاطباً نفسه في قصيدته (على باب الثمانين، 1426ه): تسعٌ وسبعون يا غازي مزمجرةٌ ضد الخنوع .. وضد الذلّ والعار وما سمحتُ لها يوماً تسآلني (أما سئمت ارتحالاً أيها الساري)؟ وما شنأت لها عسراً وعجرفةً ولا رقصت لها يوماً بمزماري وما اغتررت بها خضراء مزهرة فكل أيامها أيام تسيار سموت بالنفس أن تمنى بعزّتها لمطمع يقتضي إعنات جبار ولا العداوات صدتني حقارتها عما أروم .. ولا أطوي على ثاري وما مللت حياة طبعا غِيَرُ بلى .. نسجت لها نثري وأشعاري وسينتظر محبو وقراء ابن إدريس، وهو يؤكد مجدداً رسالة شموخه وفروسيته وإبائه، وهو على باب التسعين، وعلى باب المئة، بعمر مديدِ عزيز بإذن الله. (4) أبي الجليل: زورقك بلغ بالسلامة حلمك الجميل، فهنياً لك.. ولنا بك.