منذ نشوء ما عرف لاحقاً بأزمة الشرق الأوسط في أواسط القرن الماضي . والقضية الفلسطينية تعد لب هذه الأزمة ، لما تحظى به من اهتمام لدى الفرقاء العرب على اختلاف مشاربهم الفكرية . حيث غدت موقعاً للمزايدات السياسية ، ومركزاً للتنافس الحزبي . لذا لم تخل كل البيانات الأولى الشهيرة في عصر الانقلابات العسكرية ، من العويل والتنديد والنحيب على القضية الفلسطينية وما لحق بها من تفريط وتغريب . غير أن هذا الوهج المفتعل والمقصود به الشارع . سرعان ما يذوب بعد أن تستقر الأمور لصالح الانقلابيين ، لتعود المواقف بسياقها ونسقها تتناغم مع ما سبقها من مواقف من قبل أطراف أخرى . لا شك أن قيام الدولة العبرية بصيغة ومفاهيم جديدة وخطابها السياسي المغاير على أرض فلسطين . مهد لحالة من الصراع الطويل – على كل المستويات – بين مفهومين وأيدولوجيتين متعارضتين . بين منظورين مختلفين للحياة . وبين غالب ومغلوب . مما أدى لسفك الكثير من الدماء وهدر الأموال الطائلة على التسليح والاستعدادات المختلفة للحروب . كما ارتفع منسوب الظلم ضد الفلسطينيين والعرب بالأراضي المحتلة , وتعاظم قضم الأراضي ، وتزايدت القوة الإسرائيلية القمعية وتصاعدت مطامعها وتعنتها تجاه القرارات الدولية ، بفضل الدعم الأمريكي المطلق . يرفد هذا . مهزلة ضعف المواقف العربية . والتباين الظاهر بالتقييم والممارسة بين مختلف القوى المحركة للحياة السياسية . والتسابق بين المنظمات والأحزاب وكل المكونات للحياة الفكرية ، بقصد الكسب وحصد المواقف والنتائج على حساب القضية عموماً . لقد حدثت تحولات كبيرة في المواقف العربية ، وتحولات واسعة في الأنظمة العربية (أبرزها ما يعرف بالربيع العربي) دون حدوث أي تقدم في مواقف اليمين الإسرائيلي لجهالة سياسية ، وبسبب غطرسة القوة التي أعمت جهابذة التطرف الإسرائيلي عن قراءة الواقع الجديد بموضوعية . يوازي ذلك غباء سياسي مماثل عند الأطراف الأمريكية الداعمة للكيان الصهيوني العاجزة عن إدراك طبيعة المستجدات بالواقع العربي ، وتغير أصول ومفاتيح اللعبة السياسية في هذه المنطقة المنكوبة . حدثت تحولات كبيرة في المواقف العربية ، وتحولات واسعة في الأنظمة العربية (أبرزها ما يعرف بالربيع العربي) دون حدوث أي تقدم في مواقف اليمين الإسرائيلي لجهالة سياسية ، وبسبب غطرسة القوة التي أعمت جهابذة التطرف الإسرائيلي عن قراءة الواقع الجديد بموضوعية . ورغم عدم وجود من ينكر حجم وجسامة ومدى قوة التغيرات الدولية والإقليمية التي حدثت في السنوات الأخيرة . فلا أحد يراهن على تبدل المواقف الأمريكية تجاه إسرائيل ، لما هنالك من اعتبارات داخلية ، لم يتمكن الوجود (العربي والإسلامي في أمريكا من ولوج هذه القنوات) . لأن لها متطلبات فنية ومالية لم تبلغها هذه القوة لتشكل أداة ضغط داخل المجتمع الأمريكي . حيث سبقها اللوبي الصهيوني بمراحل لخبرته السياسية ودهاء قادته وقوته الاقتصادية ، تقديراً منهم أن الضغط فاعل على السياسيين لصالح هذا الكيان من موقع انتهازي ومصلحي . قد يكون ثمة إدراك بسيط في الآونة الأخيرة في الواقع السياسي الأمريكي لحالة الضرر الواسعة التي لحقت بسمعة السياسة الأمريكية جراء هذا التمادي المطلق لمناصرة إسرائيل دون تمييز . ولعل ما بذله (أوباما) بعد تسنمه الرئاسة الأمريكية ، من محاولات لترميم علاقة أمريكا مع المحيطين العربي والإسلامي المتهدمة منذ فترة طويلة من جراء السياسات الخاطئة تجاه قضايا المنطقة ومصالح شعوبها . يجسد جوانب من هذه الصحوة المتأخرة . غير أن هذه الرغبة – مع ضآلتها - اصطدمت بجبروت اللوبي الصهيوني وآلياته الجبارة . حيث جرى تنفيس هذا الجنوح عند (أوباما) رغم حجمه المتواضع ، وهمشوا كل إنجازاته على صعيد الأزمة الاقتصادية . واختفت كل الفعاليات والنشاطات المناصرة لقضايانا . وعلت فوقها – اعلامياً وسياسياً - أصوات معادية لهذه القضايا . مما يوضح مدى ارتباك وتناقض موقفه الرئيس خلال العديد من خطاباته . في ظل هذه الأوضاع ، لا اظن أنه يوجد من يعتقد أن أي رئيس أمريكي (في أية مرحلة – وأوباما أحدهم) يمكن أن يناصر قضايا تعد مصدراً للتجاذبات الداخلية الأمريكية وتتعلق بإسرائيل . أن يسمح أنصارها عبر قوتهم المتناهية . بفلتان الأمور ووقوعها خارج سيطرتهم ، لكي لا تنتقل إلى الطرف الآخر . مما يجعلهم يمعنون بمواقفهم الملتوية لتحديد مخارجها بالطريقة المناسبة لمصالحهم . مع كل ذلك ، أعترف بأنني تمتعت بخطاب (أوباما) الذي ألقاه مؤخراً بوزارة الخارجية الأمريكية . ليس لأنه - بقدرته الذاتية – قد أضاف (مسحات ومُجملات) تقنية على خطابه . ومع أنه جعل المسألة المركزية في قضايا الشرق الأوسط (القضية الفلسطينية) في خاتمة حديثه . مع كل ذلك ، فقد طرح ما كنت أتوقع أن يطرحه أي رئيس أمريكي ، وبعقلية مصدر القرارات الأمريكية ، وإنما كان مصدر الجاذبية أن القضايا طرحت بنوع من التفهم الإيجابي . ولأنه - أيضاً - طالب إسرائيل بأحد المحرمات (الصهيونية) وهو الانسحاب لحدود 67 مع بعض التعديلات . مما أجبر قادة الدولة العبرية وفي مقدمتهم «الجهة القاتمة من التاريخ الإنساني» (نتنياهو) ليعبروا عن رفضهم لهذا الطرح ، وغضبهم من هذا الموقف . ولم يجد هذا النازي الجديد أفضل من (الكونجرس) الأمريكي ليطرح كل ما أوتي من (لاءات) ليحظى بمواقف مناصرة داخل هذه المؤسسة التشريعية . وليسمع بنفس الوقت بعض الأصوات الجريئة من الحضور تعبيراً عن مواقف قسم من الشعب الأمريكي (خارج سياق المؤسسات الرسمية) المنددة بسياسته وسياسة دولته العدوانية ، رغم تباكيه على الديمقراطية . ومع أن قادة إسرائيل يتباهون بقوتهم ومواقف أمريكا الداعمة لهم ، ولم يبق شيء من وسائل الرفض لم يستخدموها ، ليعبروا عن حالة الغباء المتأصلة لديهم . فهناك مهام جديدة مناطة بالنخب والقوى الحية وكل الفعاليات الواقعية والجادة في المنطقة العربية ، تتمثل بضرورة قراءة المرحلة الراهنة بواقعية ، وعليها طرح برامجها وشعاراتها بما يتناسب معها ومع معطياتها . لتكون مقبولة ، ولتغدو خير عون للقوى المعتدلة في المجتمعات الأخرى ، وخصوصاً الغربية منها.