في زيارة المبعوث الأميركي للشرق الأوسط جورج ميتشل قبل منتصف هذا الشهر إلى بعض دول المنطقة، طالب الدول العربية ب «اتخاذ خطوات ذات مغزى باتجاه التطبيع مع الدولة العبرية»، القصد هنا أن تهرول الدول العربية لفتح سفارات أو مكاتب تمثيلية في تل أبيب، لإبراز حسن النيات لإسرائيل (المسكينة)، ويبدو أن الرجل الذي أكد أن السيد أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون أوضحا بجلاء تام سياسة واشنطن لتحقيق سلام شامل بما في ذلك إقامة دولة فلسطينية تعيش جنباً إلى جنب مع إسرائيل في أمن وسلام، نسي أن بعض الدول العربية سارت مع موجة رياح السلام التي هبّت على ضفاف أوسلو وفتحت 5 مكاتب لها في تل أبيب ولم تصدق إسرائيل خبراً فدشّنت مكاتب لها في تلك الدول، هذا بجانب أنه توجد سفارتان لدولتين عربيتين في تل أبيب هما مصر والأردن، وبالمثل فإنه توجد سفارتان لإسرائيل في كل من أرض الكنانة وعمّان. ومنذ بداية «سلام أوسلو» مروراً بمدريد ثم ب «خريطة الطريق» في عهد بوش الصغير، ثم مبادرة السلام العربية 2002 ثم مؤتمر انابوليس، وصولاً لخطاب الواعظ السيد أوباما من قاعة جامعة القاهرة الشهيرة الذي وجّهه إلى العالم العربي والإسلامي الخميس 4 حزيران (يونيو) 2009، وكان خطاباً فضفاضاً عاماً لدغدغة مشاعر الناس، خصوصاً أنه بدهاء أميركي دعم خطابه بآيات مؤثرة من القرآن الكريم، فقدم نفسه وكأنه واعظ ليبيّن للناس مواضع الخطأ ليتجنبوه ويرشدهم إلى الصواب ليفعلوه. لا شك أن أوباما وهيلاري كلينتون وميتشل أكدوا حل الدولتين ومن قبلهم أعلن بوش السيئ النية ذلك جهاراً نهاراً وحدد عام 2005 لإعلان جمهورية فلسطين الديموقراطية، ولم يفعل، ثم حدد عام 2008، وكانت وعوده أيضاً سراباً، وغادر البيت الأبيض غير مأسوف عليه، فماذا بعد بوش وقد أصبح هناك رئيس جديد في البيت الأبيض واعتلت سدّة الحكم حكومة متطرفة حتى النخاع في إسرائيل؟ نحن نحاول أن نكون متفائلين، والتفاؤل بداية حل كل مشكل، ولكن التفاؤل وحسن النيات لا يعنيان الغفلة، فالحديث عن السلام والدولتين الصادر عن البيت الأبيض يمثل عموميات ويطالب العرب بتقديم تنازلات شجاعة لا أكثر ولا أقل، ولم يذكر القدسالشرقية كعاصمة للدولة الفلسطينية إلا عرضاً، والعرب وهم أصحاب «النخوة» قدموا مبادرة شجاعة وأكدوا عليها في مؤتمراتهم الأخيرة طلباً للسلام، وميتشل في زيارته الأخيرة قال إن المبادرة العربية «مجرد بداية مهمة ويجب إدماجها في جهود السلام ويتعين أن تتبعها خطوات وأعمال ملموسة وتصرفات ذات مغزى». وقال رئيسه في خطابه (الميمون) من قاهرة المعز: «إن للدول العربية دوراً مهماً من أجل إنجاح جهود السلام»، ولا ندري ما هو الدور المطلوب من العرب القيام به أكثر من المبادرة العربية حيث انتظروا كثيراً لدور أميركي جسور للمساعدة كوسيط (نزيه) إذا كان في مقدرة أميركا أن تكون نزيهة في أمر يخص إسرائيل لتفعيل المبادرة وتنفيذها لبلوغ سلام عادل. من العدل القول إن السيد أوباما الذي ألقى خطابه من قاعة جامعة القاهرة العريقة التي احتفلت العام الماضي بمرور 100 عام على تأسيسها ركز على العداء والتطرف والعنف وتجنب ذكر الإرهاب صراحة على رغم ذكره ل «القاعدة» وأفغانستان والعراق، وكذلك فإنه من العدل القول إن الرجل يبدو أنه يريد أن يفتح صفحة جديدة مع العالمين العربي والإسلامي، لكنه لم يأت على بيت القصيد وهو الصراع العربي - الإسرائيلي، وليته ركّز خطابه كواعظ أميركي جديد يجيد فن الخطابة على محاور القضية الفلسطينية وإقامة الدولتين وما هو المطلوب صراحة من العرب بعد مبادرتهم للسلام؟ وما هو المطلوب من إسرائيل وأميركا بعد رفضهما لتلك المبادرة؟ أو على الأقل كان عليه أن يبيّن ما هو البديل لإحلال سلام عادل في المنطقة. إن أوباما وهيلاري كلينتون ناشطي السلام الجديدين يدركان أغوار القضية الفلسطينية، يعلمان الظلم غير المسبوق الذي وقع ضد شعب فلسطين الذي شُرّد من وطنه، يفهمان أن إسرائيل دولة قامت على أرض الغير ظلماً وقهراً، ثم إنهما والإدارة الأميركية كلها بصقورها وحمائمها - إن وُجِدوا - ومحافظيها المتشددين، قرأوا التاريخ الفلسطيني ويعرفون العذاب الذي تجرّعه هذا الشعب. إن هذا التاريخ الأسود لإسرائيل ووحشيتها ضد شعب فلسطين لا يساور أحد شك بأن سيد البيت الأبيض ونائبه ووزيرة خارجيته وإدارته كلها يدركونه ويعرفونه، ولكنهم لا يستطيعون الإفصاح عن ذلك، كما أنهم لا يستطيعون الاعتراف علناً بالحق الفلسطيني، لأن القيادة الأميركية تحت سطوة يد اللوبي الصهيوني الذي يحرك دولاب السياسة الأميركية إلى حد كبير، ولذلك فإن الإدارة الأميركية تتجنب التصادم مع اللوبي الصهيوني وتطالب العرب دائماً بتقديم التنازلات، لأنهم الأضعف والضعيف ليس من حقه أن يقول «لا» لا بالفم «المليان» ولا حتى بمجرد تحريك «اللسان». إن التاريخ يقول إن أميركا لم تغير سياستها المنحازة إلى إسرائيل منذ عام 1948، والواقع يقول إنه لم يحدث تغيير يجعل أميركا تنصف العرب أو تغير موقفها، فالعرب هم العرب بتشتّتهم وضعفهم لم يتغير فيهم شيء، وهو الضعف الذي طالما أغرى الآخرين حتى واحتقار كلمتهم فهذا عالم لا يسمع إلا صوت الأقوياء والذين وضعوا كل البيض في سلة أوباما، واعتقدوا بأنه المفتاح السحري لحل قضية فلسطين عليهم أن يدركوا أن أميركا دولة مؤسسات، وأنها ليست كبعض دولنا يفعل الرئيس فيها ما يريد ويقرر ما يشاء، فالرئيس الأميركي محكوم بقوى لا يستطيع أن يذهب بعيداً عن إرادتها وفي مقدمها اللوبي الصهيوني، كما أن أميركا بلد رأسمالي يقوم على المصلحة، ولذلك يجب أن نتوقع أن مصلحة أميركا عند أوباما أهم من كل شيء، وعليه فإننا يجب ألاّ نتوقع منه كثيراً، ويجب أن ندرك أن الحق يؤخذ بالقوة ولا يأتي عطيةً وهبةً من أحد حتى لو كان باراك حسين أوباما. ولأن الإسرائيليين قرأوا خطاب أوباما قراءة صحيحة وفهموه أحسن مما فهمناه وعرفوا أنه مجرد مسكنات، بل إنه فقاعة كبيرة لم يترك العنصري نتانياهو الوقت يضيع فوجّه رسالته للرئيس الأميركي الأحد الماضي معلناً بوقاحته المعهودة أن الدولة الفلسطينية المرتقبة يجب أن تكون منزوعة السلاح براً وبحراً وجواً لتصبح تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة، وزاد نتانياهو أنه يجب على الفلسطينيين أن يعترفوا بيهودية الدولة العبرية والقدس عاصمة أبدية لها، وهذا معناه الاعتراف بصهيونية الدولة العبرية، ناهيك عن رفض حق العودة للفلسطينيين بموجب قرار 194، بل وطرد الفلسطينيين من عرب 1948، وأكد هذا الصهيوني ليبرمان أواخر الأسبوع الماضي خلال اجتماعه بهيلاري كلينتون بواشنطن عندما ضرب عرض الحائط وبتهكّم طلب أوباما تجميد الاستيطان للشروع في مفاوضات السلام. وبعد، ماذا ينتظر العرب في هذه الآفاق الحالكة المظلمة من مسيرة السلام (الكالحة)؟ ماذا ينتظرون وقد اتضح أن الحلم المنتظر بعيد التحقيق وسط بحر لجي من الأمواج العاتية والرياح العاصفة، التي تقف في وجه السلام، وفي مقدمها علاقة الزواج الكاثوليكي بين أميركا وإسرائيل، وهي علاقة تاريخية أزلية، والتزام أبدي لا يمكن قطعه، أو حتى التلويح به، علاقة لها بعدها الاستراتيجي والسياسي والتاريخي والعاطفي والثقافي. إنها علاقة أقوى من العلاقة بين مشاهير العشاق ومجانينهم فهي أقوى من علاقة عنتر وعبلة، وقيس وليلى، وأقوى من حب ذلك الشاعر الذي هاجر ليموت عند قبر محبوبته، في السودان قائلاً: «إني مقيم ما أقام عسيب». إن علينا أن ندرك أنه لا أوباما ولا غيره يحترم الضعفاء، ويجد أنه لا مناص من إرضائهم وأنه لا أوباما ولا غيره يمكن أن يضحي بمصالح بلاده من أجل شعوب ضعيفة مفككة ليس لها أظافر ولا أنياب تقتلع بها حقها من براثن السباع، فأوباما سيتحول من «واعظ» إلى «منصف» يوم يرانا قوة تملأ النفوس إكباراً وهيبة تملأ الصدور تبجيلاً، أما بغير ذلك فسنبقى أمة ضعيفة، بل وأكثر هواناً في نفوس الآخرين ونظرهم. * رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية. [email protected]