ونحن نُسقط قراءة المشهد في لحظاته الأخيرة لتوثيق علاقته الدموية المتغولة بمقدمات انهيار البرنامج الدعائي للنظام في دمشق واضطرابه الخطير في ادعاء المؤامرة, يبرز لنا مشهد شوارع بانياس وحشود المدنيين ثم تصويب النار مباشرة على مجموعة من النسوة العُزّل واغتيالهن واقتحام الدبابات المتعدد المدن وتجاوز عدد الشهداء ألفا ومائة وخمسين، والآلاف من الجرحى والمفقودين وإعادة انتشار عسكري ضخمة في ريف دمشق، في حين يعلن التلفزيون السوري أنّ ريف دمشق وهذه المدن تحت قيادة المجموعات السلفية المزعومة!! وقد رأى النّاس صورا موثقة بالعشرات لكل اجتياح والرَميُ المباشر للمواطنين ودبابات متمترسة في الشوارع للمدن المجتاحة التي لم يُشيّع بعض شهدائها حتى الآن، ومع ذلك لا تزال هذه الجماعات مسيطرة حسب النظام!! في حين يعيد إعلانه بأن الجيش أنهى مهمته في درعا..!! ثم يتبين أنهم في حمص حسب ادعاء، وكان النظام يقول دهرا: إن المشكلة فقط في هذه المحافظة درعا الإرهابية كتلة من التناقضات تؤكد فشل مساره الإعلامي الكاذب. إذن هذا السقوط المتتالي لمشهد النظام وعجزه عن تغطية هذه المجازر بدعاياته الكاذبة في حين يحتشد الرأي العام الدولي والعربي، فضلا عن كتلة الشعب السوري ليتلقّى حقائق موثقة ويُسقِط كل من يشكك فيها من مثقفين وفنانين كانوا ردحا من الزمن يتغنى بعضهم بكأس كرامة تشرين وإذا به يشرب من دماء ثورة شعبه. هذا الاجتياح الموسّع الذي وصل إلى عشر مدن مع حشود مكثفة يعطي صورة مباشرة هنا لتصاعد أعداد وحراك الثورة وتوسّعها وانضمام دير الزور الصلبة والحضور الحموي القوي الملهب للمشاعر التاريخية وانطلاق مشاركة متصاعدة من حلب مع مظاهرات للعاصمة في ميدان دمشق في جمعة التحدي وازادي، كل ذلك يُعطي مؤشّر تحليل سياسي عميق جدا وهو أن النظام يواجه نفيرا شعبيا عاما، وهو الذي لا يزال يعترف عمليا بعجزه عن إخضاع درعا خاصة بعد تطويقه وفود الصحفيين الأجانب الذين دعاهم بنفسه. إذن هذا السقوط المتتالي لمشهد النظام وعجزه عن تغطية هذه المجازر بدعاياته الكاذبة في حين يحتشد الرأي العام الدولي والعربي، فضلا عن كتلة الشعب السوري ليتلقّى حقائق موثقة ويُسقِط كل من يشكك فيها من مثقفين وفنانين كانوا ردحا من الزمن يتغنى بعضهم بكأس كرامة تشرين، وإذا به يشرب من دماء ثورة شعبه، وما يعنينا هنا هو خسارة النظام كل الطواقم التي استنطقها من الداخل فسقط عند دماء نساء بانياس وأطفال درعا وأحرار حمص لتشكل هزيمة معنوية له ورافد انتصار روحيا لحركة الحرية، في ذات الوقت الذي ارتفع فيه عدد المعتقلين السياسيين من نشطاء وقادة معارضة ومتظاهرين بسطاء إلى عشرة آلاف معتقل، وهو ما يعني نكسة للنظام في تزايد، وعملية رفض لهيكله، وهزيمة خطته الإصلاحية المزعومة. إن ثورة الشعب السوري قررت مبكرا عدم السماح بإعادة تجربة مذبحة حما، وإن هناك شواهد قوية على أنّ تنسيقيات مدن القطر قد اتخذت قرارا بالنزول للميدان لفك الحصار عن درعا وإنهاك النظام، وهذا ما تحقق فعليا وبدا بارزا للمراقب السياسي وهو سرعة انكشاف إستراتيجية النظام، وليس هناك شك في ان هذا الاضطراب الذي يعيشه النظام حاليا وهو ينقل أعماله العسكرية الدموية بين نواح متعددة من مدن القطر تحقق عبر فدائية أسطورية جماعية من حركة الثورة السورية وقواها الشعبية, فصُدم النظام كمقدمة انهيار من أن هذا التوزع في مدن القطر تحقق، ودرعا لم تزل صامدة، بل إن ما ينقل من الداخل الدرعاوي كان قوة معنوية هائلة إثر تلقي درعا رسالة الشعب السوري من كل المدن خاصة من القامشلي الكردية السورية وحركتها الديمقراطية التي استمر هتافها «بالدم بالروح نفديك يا درعا». كل الرصد السابق عزز حقيقة قلق تل أبيب على مستقبل النظام في دمشق كأوثق حالة جُربت لتأمين الحدود السورية مع الكيان ونُذكّر هنا بتصريح رامي مخلوف لنيويورك تايمز الذي حذّر الغرب من أن فقدان استقرار النظام سيؤثر على استقرار إسرائيل. ومن المؤسف أن يستخدم بعض العرب لدعم نظام دمشق مع عجز البعد الإقليمي الآخر وهو إيران لتأمين الدعم الكافي للنظام لقوة الحراك الثوري السوري الذي انتصر على إيران في مسارين، الأول: عزل الحالة الطائفية الدعائية التي ركزت عليها إيران، والثاني: انكشاف مبكر لبرنامج المجموعات الشبابية لحزب الله لبنان المحسوبة على إيران في دمشق الذي فصل دورهم الأمني ضد الشباب السوريين المؤيدين للثورة طلبة جامعة دمشق في البيان الذي نشرته السبيل الأردنية عن أحداث جامعة دمشق ودور طلبة حزب الله في اعتقالهم وضربهم، وقد اعترف أمين الحزب بذاته بتورطه ضد الشعب السوري خلال خطابه الأربعاء الماضي في بيروت، فهل هناك مأزق للنظام مع المشهد الدولي رغم تواطؤ تل أبيب وواشنطن ؟ نقول: نعم.. فالقضية لم تعد إدارة بالرموت كنترول بعد عهد الثورات العربي, ومفاجآت التقلبات .. وحراك المنظمات الإنسانية.. وإعادة تفكير الغرب في مستقبل العلاقة مع الشرق الجديد .. كلها عوامل تضغط على النظام خاصة بعد صمود وقوة الثورة في الميدان ونلحظ هنا كيف أضحت قضية أسطورة درعا تحاصر النظام في الحرب السياسية أشد مما يحاصرها, وهذا عامل إضافي يعزز عوامل النصر للثورة السورية, وهذا الضغط الدولي من مصلحة الثورة أن يقف عند حد التصعيد والعقوبات وهو ما لم يتحقق حتى الآن, وهذا هو المسار المناسب للثورة الحاسمة في استقلالها ورفض أي تدخل أجنبي ما يحرج النظام ويسقط دعايته. لكن عنصر التقدم المشهود والمتصاعد استراتيجيا هو حركة الثورة في الميدان وانتشارها الأفقي والعددي والمعنوي وروح الفدائية, وتعزز انسجام التنسيقيات المذهل بينها, ولعلنا ندرك جميعا ان حركة الإضراب العام، ثم الخروج الشعبي الموحد من صور الحسم الشامل للثورة, لكنني أميل هنا إلى الثقة في برنامج التدرج ومفاجأة النظام في لحظة قرار مباشر تقرره التنسيقيات التي أثبتت قيادة دقيقة موزعة أفقيا دون رؤوس معلنة فأعجزت النظام الإرهابي عن اختراقها رغم وحشيته, ولعل هذه الحركة من الاستشهاد والمواكب الروحية وتحمّل فنون التعذيب لمن لم يستشهد في المعتقلات إعلاناً تاريخيا للعرب.. دمشق تعود وتعلن أم الانتصارات.