أن الفرد اليوم أصبح يتعامل مع الفتاوى كما يتعامل مع البضائع الاستهلاكية المعروضة بالسوق , فهولا يشتري من أول مرة , بل يبحث عن أخرى اقل كلفة وأجود صنعة , وأحيانا ذات أصالة وعراقة , وفي نهاية الأمر هو من يقرر وهو من يختار وحرية الاختيار هنا لا تعلق لها بصواب الاختيار وعدمه. تطرح ثورة تكنولوجيا المعلومات التي تعصف بالعالم اليوم عددا من التحديات أمام النظم والأنماط الثقافية السائدة. وهي تحديات في أسلوب ممارسة التثقيف, وفي المضمون والمحتوى الثقافي. .احد هذه التحديات هو في البنية التثقيفية ذاتها, إذ أن الثورة التقنية كونت بيئة ذات طابع أفقي والأنماط السائدة تعتمد على منظومة تثقيف رأسيه. البنية الأفقية تنتقل فيها الرسالة الثقافية ضمن دائرة واسعة يصعب في كثير من الأحيان تحديد نقطة البدء فيها من نقطة النهاية. و نقاط الدائرة متساوية كلها أمام المركز, وتتحرك كلها ضمن حركة واحدة وان كان باتجاهات وزوايا مختلفة. في البنية الأفقية تتسع دائرة الخيارات مما يضع الفرد أمام اختبارات متواصلة قد يفشل في بعضها وينجح في البعض الآخر, إلا انه في النهاية سيكسب عقله من خلال معاناة الاختيار الصعبة والشاقة. البنية الأفقية توفر بيئة حاضنه للإبداع ومحفزة له, والإبداع علاقته بالحرية علاقة طردية يزداد بوجودها ويضمر بفقدانها . فا البنية الأفقية تفترض وجود أفراد لديهم قدرة على الاختيار والفرز والانتقاء حتى يستطيعوا أن يسيروا بشكل منسجم ومتسق بدون شذوذ في القول أو خروج عن المركز.أما إذا افتقد الفرد لذلك فهو يتحول إلى مستودع لكل الأفكار والآراء حتى المتناقضة منها. أما نمط التثقيف الرأسي فهو نمط ذو اتجاه واحد تنتقل فيه الرسالة من الأعلى إلى الأسفل. الذي هو دائما طبقه من الأتباع لا مقدرة لديهم على الاختيار, والافتراض الكامن في هذا النمط أن الأتباع فاقدون للأهلية, فهم بحاجة إلى نظام وصاية يوفر لهم الحماية ويحيطهم بالرعاية الثقافية المطلوبة. والرسالة الثقافية في النمط الرأسي تقوم بمهام متعددة , قد لا يكون التثقيف إلا آخرها , فهي عادة ما تحمل بين مفرداتها ما يمكن أن نسميه فيروسات الإخضاع , والتي غالبا ما تأتي بصيغ ذات طابع توكيدي ويقيني, نجد ذلك في بعض أنماط الإفتاء التي تقوم على هذه الطريقة الرأسية, وابرز الأمثلة عليها بعض مناهج الفتوى ،ويلحق بذلك منهج الفتوى القائم على رأي مجموعة من العلماء المعاصرين تشكل أقوالهم نموذجاً قريباً من المذاهب القديمة , فتجد أن الطريقة التي تصاغ بها الفتوى تحمل عبارات مثل قول الشيخ في فتواه ,وهذا أرجح الأقوال وأقواها دليلا, أو هذا هو القول الصحيح, وكأن الرجحان هنا والصحة أحكام موضوعية لا علاقة لها بقائلها البتة أو لقد نظرنا في أدلة هذا الفريق فوجدناها ضعيفة وساقطة, أو هذا القول مخالف للإجماع, ومثل هذا من الصيغ التي تربي الأتباع على الوثوق المطلق بفتوى الشيخ وبالتالي الشك الدائم بأي فتوى مخالفة لقوله بل والتشكيك بقائلها أحياناً, وكل هذا من آثار الفيروس المضمن في مثل هذه الفتاوى, وكان يفترض أن تضاف لهذه الجمل التو كيدية عبارات تخفف من هذا اليقين وتنقله إلى درجة غلبة الظن فقط , إلا أن هذا الأسلوب سيفقد الفتوى احد أهدافها وهو هدف إخضاعي لكي يحافظ البناء الراسي على تماسكه وقيامه. ولكن التحدي الذي تواجهه الأنماط الرأسية هو أن القاعدة التي تقوم عليها هذه الأنماط يتم احتواؤها من قبل أنماط أفقية ذات بريق وجاذبية ومرونة لا تمتلك هي منها شيئآ والكفة تميل لصالح الفريق الآخر. ولو عدنا لمثالنا السابق لوجدنا الأمر واضح وبين , إذ أن الفرد اليوم أصبح يتعامل مع الفتاوى كما يتعامل مع البضائع الاستهلاكية المعروضة بالسوق , فهولا يشتري من أول مرة , بل يبحث عن أخرى اقل كلفة وأجود صنعة , وأحيانا ذات أصالة وعراقة , وفي نهاية الأمر هو من يقرر وهو من يختار وحرية الاختيار هنا لا تعلق لها بصواب الاختيار وعدمه , فهذا مبحث آخر , ولكن هذا هو الواقع و ما نحن إلا واصفون له وهذا هو جوهر التحدي الذي تواجهه الأنماط الراسية. مواجهة هذا التحدي تقتضي تربية الناس على أن يختاروا بشكل صحيح ومتوازن, وان يمارسوا رياضة النقد الايجابي, أما تنمية الجهل وقتل جذوة الإبداع وإطفاء أنوار العقل بحجة الحفاظ على أنماطنا الرأسية فهو انتحار للثقافة الأصيلة واستقبال لمولود جديد يسمى فوضى الثقافة, يفتت قطع الهرم ويمزقها.