الفتوى اجتهاد مهما بلغت أهميتها. من هنا فهي تخضع لعوامل مختلفة في إنتاجها وفي استقبالها. فليست أمرا قطعيا إنما تدخل في باب الاجتهاد. ولذلك فهي فهم متغير للنصوص الدينية وفقا لإحداثات الزمن واختلاف الأمكنة. ولأن الدين واحد، وأفهامه متعددة، ينشأ الخطاب الديني الذي تصنعه الأفهام والقناعات والاحتياجات. فما يحكم الأفراد ليس سوى الخطاب الذي تصنعه أفهام النخبة وتسوغه للعامة بدواعي الالتزام والمحافظة على الجوهر. من هنا تتباين المجتمعات في فهمها لتعاليم الدين. وتظهر الاختلافات في أمور تبدأ بالشأن اليومي لتصل إلى قضايا جوهرية، من أنظمة اللبس إلى قضايا الحكم والسياسة. الفتوى تكون في الأمور الخاصة وما يتعلق بالعبادات، وهذه لا تخلو من اختلافات في الفهم والتأويل. كما تكون الفتوى في الأمور العامة وهي تبدو أكثر جدلية حيث إنها تستند للاجتهاد أكثر من اتكائها على نصوص مباشرة. والفتوى في الأمور العامة التي تنحو في الغالب نحو إبطال سلوك اجتماعي معين بدعوى عدم موافقته لروح الدين، في الغالب حسب الرأي لا حسب النص. ويمكن أن نستحضر العديد من فتاوى الشأن العام في مسائل اجتماعية معينة تبدل التحريم أو النهي فيها إلى قبولها أو السكوت عن النهي بشأنها. فهل تغير موقف الدين بشأنها أم تغير الفهم بشأنها؟! بالتأكيد الدين ثابت بنصوصه المحكمة، لكن الفهم متغير، من هنا لا يجب أن نفرض الفهم طالما أنه اجتهاد يحتمل الصواب ويحتمل الرجحان ويحتمل الخطأ. ولمقاربة النقاش أضع شواهد تشددت فيها الفتوى وأنزلتها منزلة النهي أحيانا ومنزلة التحريم أحيانا أخرى، لكن الزمن غير الموقف منها، وتحولت من المنهي عنه إلى المباح. من هذه القضايا قضية تعليم الفتاة، والراديو، والدش، والتأمين، والبنوك، والدراجة، وغيرها من أمور الشأن العام. هذه كانت تعد من الموبقات، وهي الآن في حكم المباح. فماذا عن الفتاوى التي صاحبت نشأتها، هل ماتزال صالحة لكل زمان ومكان، أم أن وجودها الآن يخلق التناقض في وجدان العامة؟! النزوع إلى النهي منشؤه الخوف على الدين، لكن من أفتى بتحريم هذه الأشياء بالغ في سد الذرائع إلى حد أن فقدت الفتوى تأثيرها، فهل يفتي أحدهم بفسوق من عمل بعكس هذا النوع من الفتاوى؟! الخوف ليس مبررا كافيا للمبالغة في النهي، فربما أن مفاسد النهي أكبر من فوائده. إذ كيف يثق الناس في هذا النوع من الفتاوى، بعد أن غير بعض أصحاب هذه الفتاوى أنفسهم، وغدوا ممن يتعامل مع المنهيات، مثل الراديو والفضائيات والتأمين وغيرها. غلاة الفتوى عليهم مسؤولية التثبت من الفتاوى ذات الشأن العام، والتثبت لا يأتي إلا بقراءة الواقع وعدم الاستعجال في الإنكار، وعدم الانجراف لرغبات الأتباع ممن يدفعون صاحب الفتوى لإصدار فتاواه. وحقيقة، الفتاوى الفردية تفتقر إلى الإحاطة بالقضايا المختلفة التي لها أبعاد اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية مختلفة. من هنا يتطلب السعي لإصدار فتوى مراجعة المختصين في الحقول المختلفة مع مراعية الزمان والمكان ومراعاة أحوال الناس. وهو ما فعله الإمام الشافعي عندما أفتى في مسألة في العراق وعندما ذهب لمصر أفتى في المسألة نفسها باجتهاد مختلف، وما ذاك إلا مراعاة للزمان ولظروف الناس دون إخلال منه بالدين. فمن يستشعر أبعاد الزمان والمكان عند الفتوى يقدم عملا يخدم الدين ويراعي ظروف الناس ولا يخل بأمر الدين وجوهره. للفتوى في الشأن العام أصول يتوجب اتباعها، من أهم هذه الأصول أن تكون فتوى جماعية عبر هيئة أو مؤسسة، وفي حال مجتمعنا دار الإفتاء أو هيئة كبار العلماء، أو مجمع الفقه الإسلامي، أو ما شابه. ولا يجب أن تصدر الفتوى في الشأن العام إلا بعد دراسة كافة الظروف المحيطة والاستعانة بالاختصاصيين ومعرفة أحوال المجتمع وإمكانات التطبيق. فبهذا التحوط يحفظ للفتوى مقامها وهيبتها، وبهذا الإجراء تدخل الفتوى في باب العمل المؤسسي الذي ننشده جميعا. وهنا يمكن أن نقول إن الفتوى ذات الاجتهاد الجماعي أدوم في استمرارها، وأقدر في الإحاطة بظروف وملابسات نشأتها.