بينما يُصرّ كثير من الأصوات الغربية على ربط الأصوليات الإسلاميّة بالأيديولوجية التقليديّة ومنحها طابعاً ثقافياً، متجاهلة الذهنيّة أو «الوعي الحاضن» للأصوليّة، نجد أصواتاً أخرى تقف على الضفة المقابلة من هذه الرؤية، فلا تقرأ الأصوليات، بخاصة لدى الجيل الثاني من المهاجرين المسلمين، سوى أنّها «إشكال غربيّ» بالأساس، أتى نتيجة فشل سياسي سواء عند «تعدد الثقافات» (كسياسة متبعة في دول أوروبا الشمالية) أو فشل «الاندماج الثقافيّ» (فرنسا على وجه الخصوص). الحل عند بعض الصحافيين والمتطرفين لمن يأخذ بوجهة النظر الأولى (دانيل بايبس على سبيل المثال) هو الدخول إلى أرض المعركة مباشرة: أرض الأصوليّة نفسها، أي ثقافة المسلمين، وبالتالي استخدام سلاح ما أطلق عليه De-Islamization الذي سيرادف «مواجهة الإرهاب». وهذا ما كان له تأثيراته السيئة في أوضاع كثير من المهاجرين المسلمين. ولا يخفى أنّ أيّاً من هاتين النظرتين تحمل في بذورها تطرّفاً، وكلّ منهما تعارض الأخرى: فبينما تُصرّ الأولى على انتزاع الأصوليّ من ثقافته نهائياً، نجد الثانية تزرعه «عضوياً» فيها، بل وتُحمّل الثقافة مسؤوليةَ العنف، ما يؤدي تالياً إلى الوقوع في فخ الثقافويّة، والتي عادة ما تُشدّد على المراوحة في مربع مقولة الحوار أو الصراع الثقافيّ بين طرفي العالم (شرق/ غرب) والصراع الحضاري - الديني (إسلام/ مسيحية). لكنْ، من المهم التدقيق: أنّ كلا المقاربتين تنظر إلى طريقة معالجة الأصوليّة ك «إشكال» ثقافيّ، سواء اتفقتا في آلية المعالجة أم لا. وفوق ذلك، أنّ في الوقت الذي تركز هاتان المقاربتان على استخدام مفردتي «الأصوليّة» و«الثقافة»، فإنهما تقعان في قالب التنميط وإعادة التنميط للآخر (سواء عن عمد أو لا)، نتيجة الفشل في فهم الأصوليّ نفسه و «وعيه» البراديغمي المتقولب داخله، فضلاً عن تجاهل المشاكل الاقتصادية والسياسية التي تحيط به... إلخ. ربما من المهم تذكر، أنّ الإحيائيين من الإسلاميين حينما صعدت أصواتهم في بعض البلاد العربية أوائل القرن العشرين، لم تكن حربهم فقط ضد «التقليد» الأوروبيّ، بل ضد الثقافة الإسلاميّة «التقليديّة» ذاتها. وقد كانوا مدفوعين في الواقع تحت ظل أصداء هول الصدمة مع حداثة أوروبا، وعلى أمل إحياء ما اعتُقد «هوية العصر الذهبي». وقد اشترك كثير من التيارات اليساريّة مع الإحيائيين الأصوليين في هذه المعركة؛ لكنْ بأدوات ومناهج أيديولوجية مختلفة. أما في العمق فكان الهدف واحداً: الحرب ضد التقليد الإسلاميّ. وبالتالي، كانت هناك فعلاً عملية خلق وتوسع للفجوة الثقافية ما بين الشارع الإسلاميّ التقليديّ والإحيائيين (واليساريين كذلك)، لدرجة أنّه كلما زاد ابتعاد الإحيائيين عن ثقافة التقليد الإسلاميّ، زادت حدة أصوليّة أولئك الإحيائيين. لكنْ، لنا أنْ نتساءل: هل كان هذا يمثل فعلاً انفصالاً تاماً عن الثقافة الإسلاميّة واندراجاً كلياً تحت ظل «شروط» ثقافة الحداثة الغربيّة؟ قطعاً لا. ما يميز الأصوليّة بجوهرها في هذه النقطة، أنّها لا تستطيع الانفصال عن التقليد الثقافيّ بنحو مطلق، وفي الوقت نفسه لا تستطيع السير معه إلى نهايته. وربما هذا عائد من جهة، ل «انسيابيّة» الأيديولوجية الأصولية، على رغم تصلّبها على مرتكزات جوهرانيّة محدّدة، لا يسعنا الآن ذكرها، والتأزم الهوياتي لوجود الأصولي ذاته من جهة أخرى. لنتذكر أنّ تنظيم القاعدة ذاته (وهو تنظيم أصوليّ «دولانيّ» ما فوق قوميّ، كما تصفه أدبيات الباحثين الغربيين) منقسم على نفسه بهذه النقطة: فبينما تبدو أهدافه أهدافاً دوليّة، نجد أنه بين الحين والآخر يعود ليخاطب التقليد الثقافي الإسلامي ويتودد له، بل ويبني داخله قواعد تنظيمية ويصبح التقليد الثقافي ميدان عمله. ومثال القاعدة في اليمن ما زال حاضراً بقوة اليوم. لا يمكن تخيّل كم أحدثت أصوليّة سيد قطب واتهامه المجتمعات الإسلاميّة بالجاهليّة، من تأثيرات في الإخوان المسلمين، وبخاصة في شأن ابتعادهم عن السياق الثقافيّ التقليديّ الإسلاميّ؛ لكنْ في الوقت نفسه لا يمكن تخيل كم أحدثت دعوات الهضيبيّ مثلاً (وكتابه «دعاة لا قضاة») من تأثيرات في شأن عودة الإخوان أنفسهم إلى سياق الشارع الإسلامي التقليدي ذاته، ما أذن تالياً إلى دخول عدد كبير من الإحيائيين الإسلاميين إلى «شارع السياسة»، لكن من البوابة الخلفية للسياسة. صحيح أنّ سيد قطب يختلف عن الهضيبي في كثير من النقاط، إلا أنّ الاثنين ينتميان في نهاية الأمر إلى باراديغم معرفي واحد، والاثنان يؤمنان بإحياء هوية فردوسية، إلا أنّ طريقة تعاطيهما مع ثقافة التقليد الإسلامية هي محطّ الخلاف بينهما، على رغم اتفاق الطرفين على النظر إلى هذه الثقافة بكونها ليست هي المطلوبة وفقاً ل «الأصول» المتخيّلة في ذهن كلّ منهما. لقد أدت في الواقع دعوات الهضيبي القوية (في سبعينات القرن العشرين فما فوق) إلى خلق «سوق» كبير للإسلاميين. وكان السلفيون في هذه السوق هم من مثّل ثقافة «النخبة» في ذلك، وذلك بتعاليهم العاجي وإصرارهم على العيش خارج نوافذ التقليد الإسلامي وألعاب السياسة. لكن ماذا عن سلفيي اليوم؟ إنّ مجرد دخول سلفيي ربيع العرب أو أجزاء كبيرة منهم إلى البرلمان يعني في نهاية المطاف التصاقهم بثقافة تقليد الشارع وعودة الأصوليّة للاتصال بها. وهذا ما ينقض وجهة النظر الغربية الأولى التي تقول «بنحو مطلق» بانفصال الأصوليين عن الثقافة. ما يهم التقاطه في هذا السياق أنّ الإشكال ليس في انفصال أو اتصال الأصوليين بالشارع، بل في قدرة الأصوليين أنفسهم على الانقلاب على «الوعي» الأصوليّ والإحيائيّ ذاته. ثقافة التقليد لا تعني كثيراً هنا؛ ما هو المعني هو وعي الأصوليّ بالثقافة. وعند هذه النقطة يمكن الحديث عن أهمية علاقة الأصوليّة بالتقليد الثقافي (أما التراث المقدس للأصولي، الحامل الأيديولوجي، فهذا موضوع آخر). للأسف، ما أثبتته تجارب الأصوليات العربيّة هو في قوة إمكاناتها على «تجديد نفسها»، وذلك استجابة لكل مرحلة تاريخية تضغط على الأصوليين؛ لكنْ مع بقاء جوهر «الوعي» الأصوليّ ذاته. لهذا يبقى إقبال الأصوليين السلفيين اليوم على السياسة بنحو استسهاليّ كثيف، إقبالاً غير مطمئن، طالما أنّ «الجوهر» السلفي هو هو. وبكلمة: الرهان ليس على دخول الأصوليين إلى الشارع والعالم، بل في طريقة النظر إليهما، في طريقة وعيهم بالسياسة، أي في «تسييس» الذهن السلفي ذاته و «تحديثه»، ليس طبقاً لشروطه بل وفقاً لشروط الحداثة السياسية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. من هنا، بإمكاننا قراءة بعض الأخطاء الغربية التي لطالما كررت الهفوات نفسها (غالباً ما تكون أنثربيولوجية) في قراءة الأصوليين والإحيائيين، سواء من حيث طبيعة الأدوات والمناهج الميثودولوجية من جهة، أو أخطاء التعميم، والتي تؤدي في غالبية الأحيان إلى وضعهم كلهم في سلة واحدة من جهة أخرى. * كاتب سوري