خلال العقدين الأخيرين تزايدت ظاهرة ذات أهمية مركزية شملت مختلف أركان العالم: النمو المُطّرد للأصولية والتعصب الديني، والقومي، والعرقي، والثقافي. إنها ظاهرة لها تأثير عميق في العلاقات الاجتماعية، وفي نشوء تصدعات اجتماعية جديدة داخل حدود عدد متزايد من البلدان، في السياسات المحلية والدولية، في توزان القوى في المجال القومي والإقليمي والعالمي، وفي انتشار مختلف ظواهر العنف، وفي مقدمها ظاهرة الإرهاب الذي تُمارسه الدولة، أو قوى خارج إطار الدولة. المعتقدات والقناعات الأصولية هي المنبع الذي تنشأ منه مختلف أنواع السياسات المرتبطة بالهوية، أي السياسات التي تتمركز على هويات بذاتها، وعلى الأخص تلك التي لها طابع ديني أو عرقي أو قومي. تفجرت سياسات الهُوية عند أواخر الثمانينات من القرن الماضي. بدأ هذا الانفجار في الاتحاد السوفياتي السابق، وبلدان أخرى كانت تنتمي إلى حلف وارسو. تفكك الاتحاد السوفياتي إلى خمس عشرة قومية. كذلك انقسمت دول متعددة العرقية مثل تشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا إلى كيانات مستقلة. داخل بعض هذه المجتمعات انبعثت قوى جديدة تسعى إلى تأكيد هويتها كان لها طابع عنيف، زادت شراسته كلما سعت الدولة إلى قمعها بلا رحمة. في عدد كبير من بلدان الجنوب (العالم الثالث سابقاً) تفجرت ظواهر للأصولية أكثر عنفاً، وميلاً إلى التدمير كما حدث في الصومال ورواندا والسودان وأفغانستان وباكستان وزيمبابوي والكونغو الديموقراطية والعراق والمملكة العربية السعودية واليمن والكويت وبنغلادش وغينيا وبورما وأثيوبيا وسيريلانكا والهند والجزائر ومصر. الملاحظ أن الانفجارات الأصولية العرقية، أو القومية، أو الدينية حدثت متزامنة تقريباً مع انهيار الاتحاد السوفياتي، ومع الردة التي أصابت المشاريع التي تبنتها بلاد الجنوب عندما تحررت من الاستعمار السياسي بُغية إقامة مجتمع يكون بديلاً للرأسمالية المعاصرة، مجتمع متعدد الثقافات والأعراق، وأكثر عدالة من المجتمع الذي عاشت في ظله. لم يكن العالم الأول استثناء في هذا التيار العالمي الذي تميز بازدهار سياسات الهُوية المبنية على القومية، أو العِرق، أو الدين. ربما لم تكن الظاهرة الأصولية فيه متسمة بالقدر من العنف نفسه الذي ارتبطت به في بلاد الجنوب. مع ذلك، فإن تأثيرها في العالم كان مُدمراً إلى أبعد حد لفرص السلام والاستقرار. مثال ذلك التحيز ضد العرب والإسلام الذي لعب دوراً مهماً في بلاد الغرب الرأسمالي، وعلى الأخص في الولاياتالمتحدة الأميركية حيث شارك بقسط كبير في دفعها نحو استخدام القوة العسكرية غير المشروعة دولياً ضد أهداف عربية أثناء تسعينات القرن الماضي، وذلك قبل هجوم 11 أيلول (سبتمبر) 2001 بسنين. تُضاف إلى هذا الهجمات الجماعية، والاعتداءات الشخصية الشرسة التي شنّها اليمين المتطرف والمتعصب على الأقليات القومية وعلى العاملين المهاجرين من بلاد أخرى في فرنسا وألمانيا وإنكلترا وإيطالياً. أما الإجراءات الأمنية الخاصة، والعمليات المُضادة للإرهاب التي نُفذت في هذه البلاد، فقد صنعت ظروفاً مُشجعة للعنصرية العرقية، والكراهية للأجانب داخل بلاد الاتحاد الأوروبي. وفي الولاياتالمتحدة، إلى جانب العنصرية العرقية ضد السود، حدث ازدهار ملحوظ للتحيز ضد الأقليات العربية، أو المُنتمية الى أصول إسبانية. حتى رجل كتوني بلير الذي كان رئيساً للوزراء في بريطانيا بلد الثقافات المتعددة، عبّر عن تحيزه في محاضرة ألقاها يوم الأول من آب (أغسطس) 2006 أمام أعضاء «مجلس لوس أنجيليس للشؤون الدولية»، حيث قال: «يُوجد قوس من التطرف يمتد من دول آسيا الغربية أصبح يمتد في شكل واضح إلى بلاد تبعد كثيراً من هذه المنطقة، ولا يستطيع الغرب أن ينتصر عليه إلا من طريق شن حرب مبنية على قيمنا «الخاصة» في مواجهة قيم هؤلاء «الآخرين»، إضافة إلى استخدام التكتيكات العسكرية التقليدية ضدهم». تتجلى العلاقة بين الأصولية القائمة في الغرب في التحالف الوثيق القائم بينها وبين الصهيونية الحاكمة في إسرائيل، وفي السياسات الدموية التي تُنفذ ضد الفلسطينيين، في الحروب التي تكررت ضد لبنان، في احتلال الجولان، والسعي لإضعاف سورية وعزلها، وإخضاعها تماماً، في التهديد بالهجوم على إيران، والسعي المستمر لتحويل الشرق الأوسط إلى منطقة تُنفذ ما يُطلب منها من دون اعتراض. فلولا مساندة المحافظين الجُدد في الحزب الجمهوري والديموقراطي للصهيونية، لولا التيار المسيحي الصهيوني العنصري الأصولي الذي يخضع لنفوذه ما يقرب من خمسين مليوناً من الشعب الأميركي، والذي لعب دوراً أساسياً في وصول بوش إلى البيت الأبيض، لما استطاعت إسرائيل أن تفعل ما تفعله في فلسطين، أو أن تُبسط هيمنتها المتزايدة على شؤون الشرق الأوسط، وعلى الطبقات الحاكمة المسيطرة في بلادها. إزاء هذا التحالف، يبدو أن باراك أوباما، على رغم بعض نياته الحسنة، لن يستطيع أن يفرض السلام الذي كان يُمكن أن يُعيد إلى الشعب الفلسطيني حتى جزءاً ضئيلاً من حقوقه المغتصبة، أن يكبح جماح حكومة نتانياهو على رغم التصريحات المستمرة التي يُدلي بها هو ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون، وعلى رغم ابتسامات مبعوثه جورج ميتشيل. * كاتب وروائي مصري