توجد عبارة لروبرت كينيدي، تكتظ حساسية وتناقضا الى قراءة المستقبل فقد نقلوا عنه ذات مرة أنه كتب في مذكراته: (سامح أعداءك ولكن لا تنس اسماءهم مطلقا). والواقع يثبت لنا اليوم أن أمريكا على النقيض من ذاكرة كينيدي، فهي لا تستطيع التسامح مع اعدائها، كما أن الدستور الأمريكي نفسه لم يعد يعي أولوياته الكلاسيكية. وبالكاد يذكر الأمريكيون تاريخهم جيدا كما كتبوه أول مرة. ولكن كما أن لروبرت كينيدي الماضي الى مصيره منذ زمن مقالا،فالدستور الأمريكي كان يوحي دائما وأبدا بأهمية ( لا تزحف الى أراضي الاعداء مطلقا). لقد كانت تلك هي القاعدة الذهبية للدستور الأمريكي، وربما تجرأ الأمريكيون على كسرها اعتقادا منهم أن القاعدة الأمريكية ليست انجيلا يوحى الى التلاميذ. كان الأفغان أصدقاء حميميين للأمريكان، ومع ذلك زحف الأمريكيون الى الأراضي الأفغانية إبان مرحلة العداوة. وهكذا خالفوا القاعدة الأمريكية بعدم الزحف فاختفت القاعدة الأخرى تحت ستار كثيف من الغبار وتداخلات الجغرافيا، لكي تظهر في صيغ اخطبوطية بعمق الأسطورة الرقمية. بحسب العاكفين على دراسة الشأن الأمريكي، أرتكبت أمريكا الخطأ للمرة الثانية في افغانستان وثالثا في العراق ومن قبل ذلك كله عندما تجاوزت الدستور الأمريكي بالخروج الى الأراضي الفيتنامية. لقد كانت نقطة القوة الأمريكية في بقائها تمارس تصدير السيادة من الداخل، وأما الخروج الأمريكي عبر تجاربه الثلاث فهو مؤشر يفهم منه صانع القرار الأمريكي والمستهلك لهذه السيادة أنها مجرد نقطة ضعف ليس إلا. ذات مرة كتب الفيلسوف ايمرسون محفوفا بطقس الفلسفة ولدوافع غير عسكرية بأهمية بقاء الأمريكي في الداخل حتى لا يتبخر وجوده الروحي في الخارج، وحتى المثقف الثائر هنري ديفيد ثورو كان يرى في أدبياته عن العصيان المدني أن التحرش ضد العدل وان عدم العدل هو فوضى ولا يضمن الاستقرار لطرف. وهكذا تفاوض من قبل ذلك كله جورج واشنطن مع الانجليز على هذا الأساس من قبل أن يولد ثورو ويعيش حياته مبشرا بسياسة اللاعنف. لقد استخدم واشنطن في ادبياته المثالية على خلفية الوجود الانجليزي في أمريكا نفس عناصر منطق جيفارا ولاحقا كاسترو والشعوب المقهورة على خلفية خروج المارد الامريكي من القمقم قائلا الى الوجود الانجليزي: حاربونا... نحاربكم، فاما أن تفنونا أو نفنيكم، وهكذا أغلق واشنطن دفتي الوصية على إحدى روائع المثالي الأمريكي الناصح. ومن عجب أن مفكرين وصحفيين أمريكيين طالبوا الفلسطينيين عقب وفاة عرفات بتبني سياسة مهاتما غاندي تجاه اسرائيل، ولم يوصوا لمواطنيهم خارج الأراضي الأمريكية بشيء من كلاسيكيات واشنطن أو تراث هنري ثورو في أدبياته عن العصيان المدني. هنا يمكنك القول التاريخ يعيد نفسه. وهنا أيضا يمكنك القول: إن قراءة التاريخ يفترض أن تتيح لنا أفقا لتوقع المستقبل. اذا قرأت اليوم أفكار رامسفيلد ومعتقداته السياسية، فسوف تجد أنك أمام النصف الآخر من مكنمارا، وزير الدفاع الأمريكي في فترتي كيندي وجونسون. فقد بقي الأخير يبرر في مذكراته الى ما بعد ربع قرن من وقف الحرب الأمريكية في فيتنام فترة بقائه كوزير للدفاع الأمريكي لسبع سنوات تماما وكأن هذه القصة المثيرة للجدل حول فيتنام ومكنمارا تعكس اشتباكا في علاقة رامسفيلد بالعراق، فعلى مدى سنوات الحرب أفرز التداخل ثغرات لا يمكن تناولها بسهولة، غير أن أحد مخرجي الافلام الوثائقية قدم لنا بجدارة في العام الماضي على خلفية الحرب الأمريكية في العراق اضاءة مستقبلية لما أفرزته الحرب الأمريكية في فيتنام. في العام الماضي قدر لي عبر (ايلاف) اثارة واستنباط ما لا يقل عن احد عشر درسا من (ضباب الحرب) حيث تتناول هذه الرواية السينمائية في العمق عقلية مكنمارا من الداخل، ناهيك عن كون قراءة تاريخ هذه النوعية من القيادات تضيئ جوانب من انزلاق الشخصية المسؤولة بارتكابها اخطاء مشينة تجاه اتخاذ قرارات تودي بحياة آخرين لمخاطر جادة وتدفع بأرواحهم الى جحيم آخر من نوعه. ومع ذلك تحاول نماذج بشرية على هذا النحو تبرير أفعالها براحة ضمير وكأنها تؤكد لذاتها عصمة أخلاقية تقيها الانزلاق في مستنقعات آثمة. ها نحن اليوم أمام السيناريو نفسه، ويظل الفارق الوحيد أنه لم يئن الوقت بعد لكي يكتب رامسفيلد مذكراته كما فعل مكنمارا الذي لم ينس الرأي الأمريكي لاحقا وصفه بعد ربع قرن على الحرب الفيتنامية بأنه صاحب عقلية ضحلة ومجرد انتهازي يزاوج الفضيلة بعهر الدعاية.