يتندر الأديب الراحل عبد العزيز مشري ببعض المواقف الطريفة بينه وبين بعض "الزملاء" المحررين الذين يقصدونه "متأبطين" آلات التسجيل، طالبين منه أن يحدثهم عن تجربته الشعرية، وعن آخر ديوان أصدره، أو آخر قصيدة كتبها. ولم يكن مشري شاعرا ولا متشاعرا، لكنه كاتب وقاص ورسام، ويحلو له أحيانا أن يدندن على العود، أمام الأصدقاء فقط، بعض "إبداعات" سميرة توفيق مثل "بيع الجمل يا علي". ويبقى ذلك "الالتباس" مشكلة بعض المحررين ممن هم لا في العير (الثقافي) ولا في النفير. إذ لابد أن يلم المحرر بأبسط أبجديات "المجال" الذي يحاول اقتحامه، لكي ينجز لقاء جيدا أو تحقيقا متميزا أو تقريرا صحفيا ناجحا. لكن هذا نادر التحقق في ظل تلك الهرولة التي لا تنتج في نهاية المطاف إلا عملا علامته المميزة "مشّ حالك" وهو شعار رائج في بيئتنا العربية، وليس حكرا على حقل دون سواه. أما الأسئلة التي يطرحها "الزملاء" فغالبا ما تأتي مكررة ومتشابهة ومملة، ويمكن طرحها على المفكر وبائع الفول والطعمية. فهي لا تخرج عن إطار "من أنت؟ وكيف كانت البدايات؟ وما حكمتك المفضلة؟ وحدثنا عن موقف طريف مررت به؟ وما نصيحتك لبائعي الفول والطعمية الشباب؟". عندما حاول الدكتور فؤاد أبو منصور الاقتراب من مدارات الشاعر الفرنسي أراغون تساءل برهبة الباحثين الجادين عن "القنوات التي تؤدي إلى اقتراب مباشر من الرجل الواقف على مشارف التسعين من العمر دون أي خيط أبيض في وعيه وذاكرته... وكيف العثور على مفاتيح هذا الخصب الفكري الشامل الذي يسقي حضارة بأكملها؟". إن مثل هذا السؤال المشبع بالقلق لا يخطر على بال أولئك الذين لا يبحثون عن المفاتيح أبدا. وما الحاجة إلى المفاتيح إذا كانت البيوت لا تؤتى من أبوابها؟ وإذا استثنينا الأسئلة المكررة والمتشابهة والمملة التي أشرنا إليها قبل قليل فإن بعض "الزملاء" قد يقترح على ضيفه أن يطرح على نفسه ما يشاء من الأسئلة التي يراها مناسبة. وقد يتبرع الضيف، أحيانا، بإعادة صياغة الأسئلة وتقويم اعوجاجها لتبدو مقبولة. وربما تدخل في اختيار العناوين الجانبية. هذا إذا كان اللقاء مدونا على الورق، أما إذا كان مسجلا فعلى الضيف أن يحبس أنفاسه حتى يوم "النشر"، فقد ينسب إليه ما لم يخطر له على بال. هنالك هرولة تسعى إلى تحقيق نتائج عاجلة. لكنه يتعذر إنجاز عمل بشكل متقن دون كد وكدح ومثابرة. ويؤكد أنيس منصور هذا المفهوم في إشارته إلى تجربته الصحفية في الأهرام. فإذا كان محررو هذه الأيام يتوقعون أن يسمعوا الصدى قبل الصوت. فإن هذا الصدى يحتاج إلى زمن طويل في بعض المؤسسات الصحفية حتى يمكن سماعه. ولهذا يقول: "فإذا كان من حقنا أن نكتب فليس من حقنا أن نوقع على الذي نكتبه. يجب أن نعمل طويلا ونجرب كثيرا حتى يحق لنا أن نوقع. فإذا ما تكرر ذلك قفزت الإمضاء وحدها". وما يقوله أنيس منصور شبيه بنصيحة جاك بريفير في قصيدته (كيف ترسم صورة عصفور) وفيها يوصينا أن لا نوقع أسماءنا على اللوحة، وقد اكتملت، قبل أن نسمع تغريد العصفور. والتغريد هنا يعني أن اللوحة قد أنجزت بإتقان. لكن بعض المحررين هذه الأيام ينتظرون سماع صدى أصواتهم قبل أن يتكلموا. ويوقعون أسماءهم سواء غرد الطائر أم لم يغرد. أما جورج جرداق فيأخذ على بعض "الزملاء" المحررين، وبأسلوب ساخر، ولعهم الشديد ب "المزاملة" فيقول: "من أفاعيل الليل والنهار أن الظروف القاهرة لا تجمع بين اثنين في طريق واحدة إلا وأصبح أحدهما "زميلا" للآخر في نظر هذا "الآخر" وعلى لسانه. وانطلاقا من هذا المبدأ يكون أفراد هذا الطاعون الذي اسمه "شعراء أغنية" زملاء لأبي نواس وأبي الطيب المتنبي"! ويلاحظ جرداق أن جان بول سارتر قد كان كاتبا في جريدة (إيسي باري)، وكان يستخدم أحد مكاتب الجريدة، ولم يفكر "زملاؤه" المحررون مرة واحدة أن ينعتوه ب "الزميل". لكن أحد المحررين اللبنانيين فعل ذلك وهو يرد على الفيلسوف الفرنسي من وراء بِحار عندما بدأ عبارته قائلا: "ولو أن الزميل جان بول سارتر كان أكثر واقعية ما اضطرنا إلى الرد عليه"!! وتلك، يا شاعرنا، نكتة "نكتاء" تنسي الخنساء حزنها على أخيها صخر! غير أن ذلك "التواضع المهني" قابل للمعالجة والتطوير. فقد بدأ بعضهم بداية متواضعة لكنه استطاع أن ينمي تجربته ويطور أدواته ويراكم خبراته. أما الذي لا سبيل إلى علاجه فهو صلف وطاووسية بعض "الزملاء" من نجوم الثقافة والأدب والفن. وتصور نفسك مكان ذلك "الزميل" المحرر في بهو أحد الفنادق، خلال ملتقى ثقافي، تلاحق "زميل سارتر" المصاب بمرض "العظموت" وهو يتخايل تخايل شجرة جرداء، لاعتقاده أن كل تلك الحشود من المحررين والمراسلين والمصورين، وتلك العدد العديدة من الكاميرات والأسلاك ومصابيح الومضة (الفلاشات) إنما اصطفت جميعها احتفاء بوحيد زمانه، وعظيم أقرانه، صاحب الكياسة "زميل سارتر"! وما أجمل تواضع الكبار، فهم وحدهم يدركون أن التواضع في المجد أعظم من المجد نفسه.