كنا على نهاية صيف هذا العام في ماليزيا للمشاركة في ملتقى علمي حول ( الإبداع في استخدام الخريطة الذهنية) (mind mapping) وصاحب هذه النظرية هو المفكر (توني بوزان ). وقد رغبنا في أن نسجل في هذه الرحلة العلمية مشهد التفوق في التجربة الماليزية وقد ساعدنا على تفهم سمات تلك التجربة أن رجعنا إلى مجموعة من المقالات و الدراسات قبل السفر إلى هذا البلد الذي يتميز بكثير من الدروس والعبر السياسية والاجتماعية والعرقية والثقافية و التي من الممكن أن تأخذ بها الدول النامية ومنها بالطبع ( الدول العربية ) كي تنهض من كبوة التخلف والتبعية. حضور البوصلة في المشروع الوطني: عندما يذهب الإنسان في ماليزيا إلى أي موقع إعلامي أو محفل علمي في المدارس والجامعات ومراكز التدريب أو عند الجلوس مع المثقفين الماليزيين يلاحظ أن الجميع يتحدث وبشكل تلقائي عن (vision 2020) وهي اختصار للخطة التي وضعها مهندس التغيير والتحول في ماليزيا (مها تير محمد ) والتي تنص على أن ماليزيا وبحلول عام 2020 ميلادي تكون قد بلغت مصاف الدول المتقدمة. ان حضور الرؤية الواضحة في إطار المشروع الوطني يمثل في تقديرنا (البوصلة) الهادية للجميع ويحدد للمواطنين طبيعة الأرض التي يقفون عليها والانتماء الذي يعبرون عنه والأهداف التي يسعون إليها فإنه من أخطر إفرازات الحال في واقعنا العربي هو مرحلة ( اللامشروع ) حيث تختلط المقدمات بالنتائج ومن ثم يستسلم المواطن والمؤسسات الوطنية والمدنية وقطاعات عريضة للحيرة والضياع. وذلك أن أي قافلة حين تفقد (بوصلتها ) فمن الطبيعي أن تضل طريقها. وقد تحدثنا ذات مرة عن تجارب الدول وقلنا أن (الرؤية الإبداعية ) تأتي قبل القدرة المادية ؟ وهذا عينا ما فعلته ( ماليزيا ) فكل الدول التي تقدمت كان رصيدها من الإبداع أكبر من رصيدها من أي من الموارد البشرية والعكس صحيح فهناك دول قل سكانها وتقدمت مثل سنغافورة وهناك دول زاد سكانها وتأخرت مثل الهند وهناك دول قلت مواردها وتقدمت مثل اليابان وهناك دول قلت مساحتها وتقدمت مثل سويسرا وهناك دول زادت مساحتها وتأخرت... الخ. إذا هناك معادلة جديدة (للدول والموارد ) ترتكز على وجود (عقل مفكر ) يرسم خريطة ويضع بوصلة على غرار التجربة الماليزية التي من الممكن أن يستفاد منها عربيا فقد تحولت ماليزيا التي يبلغ عدد سكانها (23) مليون نسمة فقط إلى مصدر اقتصادي ذي نفوذ حيث تصدر من السلع ما تزيد قيمته على (100) مليار دولار وهو يعادل ما تصدره الهند ذات المليار نسمة !! وتعادل ما تصدره كل من إسرائيل وإيران وأمريكا مجتمعين !! المدرسة الذكية: على الرغم من أن (مهاتير محمد) قد تخرج في كلية الطب في سنغافورة و مارس مهنة الطب إلا أن الرؤية السياسية كانت حاضرة في حركته و أن معالجته لم تقتصر على أمراض الجسد بل كانت معالجته للأمراض الاجتماعية و السياسية أكثر أهمية في مشوار حياته. لقد بدأ تدرجه التصاعدي من أسرة فقيرة حيث كان الأصغر بين اخوته التسعة وترقى ليكون عضوا في البرلمان ثم وزيرا للتعليم فقام بتطبيق رؤيته حول ما يطلق عليه ( السياسة التعليمية الجديدة) كما تولى وزارة الصناعة والتجارة ثم أصبح رئيسا للوزراء بالانتخاب ولا بد أن نسجل هنا أن (مهاتير محمد ) قد ترك السلطة طوعا بعد تأسيسه لبنى تحتية عرقية واجتماعية ناجحة كما قدم نموذجا لعدم التشبث بالسلطة حتى آخر رمق في الحياة !! . عمد ( مهاتير محمد) في خطته (رؤية 2020) إلى الاهتمام بالتعليم كمحور هام في مشروع النهوض بماليزيا فرمز للتعليم في هذه الخطة (the education act 1996) و من أهم أهداف هذه الخطة إدخال الحاسب الآلي والارتباط بشبكة الإنترنت في كل فصل دراسي من فصول المدارس. وفعلا لم تكن تلك مجرد شعارات كما هو الحال في بعض الدول العربية بل ان غياب رؤية واضحة في وزارات التربية والتعليم في وطننا العربي جعل المواطن مندهشا من التخبط في تطبيق نظريات وأفكار ثم بعد فترة يتم التراجع عنها!! فيكون الأبناء عرضة أو محطة للتجارب المرتجلة أو بتعبير أكثر رقيا وتحضرا القبول بتحويل الأبناء إلى(فئران معامل)!!. وعودا على التجربة الماليزية فقد بلغت نسبة المدارس المربوطة بشبكة الإنترنت أكثر من 90% و في الفصول الدراسية 45% وتسمى المدارس الماليزية التي تطبق التقنية في الفصول الدراسية(المدارس الذكية) smart schools)). كما أعلن في ماليزية عن انتهاء عصر الكتاب المدرسي التقليدي حيث تم تطبيق فكرة الكتاب الإلكتروني وسوف تحل هذه الكتب في جميع المدارس التي تديرها الدولة بحول عام 2007. التسامح الديني: يتألف المجتمع الماليزي من ثلاث مجموعات عرقية أساسية هي المالاي (50%) والصينيون (30%) والهنود (10%) فعندما تقوم بزيارة إلى هذا البلد فإنك تجد المسجد إلى جانب الكنيسة والمعبد !. فالماليزيون يفتخرون بتعدد دياناتهم وأعراقهم فحرية الدين مكفولة للجميع بإرادة قوية من قبل رأس الهرم الديني والسياسي بل يشعر كل ماليزي بالاعتزاز من هذه التركيبة التي كانت السبب في إطلاق عبارة ماليزيا ( آسيا الحقيقية ) باعتبارها تضم كافة أطياف الحياة الدينية والثقافية والمتناقضة في هذه المساحة الجغرافية الصغيرة ولكن بدون عراك وتوجس. هذا التسامح الديني والاعتراف المتبادل بين الطوائف والأعراق المختلفة لم يأت من فراغ فبعد سياسة الإصلاح الاقتصادي التي امتدت من (1970-1990م) اهتمت خطة (رؤية 2020م) بتحسين الأحوال المعيشية و التعليمية والصحية للسكان الأصليين في محاولة لتأكيد وتثبيت مبدأ (العدالة الاجتماعية للجميع). و معلوم تاريخيا أن (الملاي ) يمسكون بناصية السلطة السياسية متمثلة في حكم ملك ماليزيا وسلاطين الولايات أما الصينيون فقد تمتعوا تقليديا بالهيمنة الاقتصادية لذا كانت استراتيجية (مهاتير) بمثابة الجسر الذي حقق النجاح فرفع معدلات التنمية لتحسين أوضاع (الملاي ) المسلمين وإعطائهم مزيدا من فرص الترقي في الوظائف وكذلك الدخول في ميادين الأنشطة الاقتصادية دون الإضرار بالعناصر العرقية الأخرى. بل ان (مهاتير) دعا مسلمي ماليزيا وبدون الشعور بعقدة النقص إلى تعلم الكفاءة الصينية في العمل المنضبط. وهكذا ترسمت ملامح وسمات (عبقرية التجربة الماليزية ) من خلال رؤية واضحة للإصلاح الاقتصادي وتثبيت مبدأ التسامح الديني وتحقيق العدالة الاجتماعية على مستوى - الداخل - وفي الوقت نفسه الانفتاح - دون وجل - على الخارج فجمعت ماليزيا بذلك بين التدين والعصرنة ؟ ويحق لجميع الشعوب أن تتعلم من بعضها فالمهم عدم الاكتفاء بالتفرج خصوصا وانه يتكرر كثيرا في مجال التدريب الابتكاري مقولة: يجب ألا تقف عند حد الإعجاب بالمبدعين: كن واحدا منهم !!