كل شعوب الأرض تقدمت بهذا القدر أو ذاك بفضل حركة التنوير.. ما هي حركة التنوير؟ حركة التنوير هي هذا النشاط الممارس في حقول الفكر على يد أفراد او منظمات او سلطات سياسية. حركة التنوير هي محصلة لكل الاسهامات الفكرية التي تعمل على تجاوز كل ما يعيق حركة تقدم المجتمع الى الأمام نحو الأفضل. يتجسد ذلك في مظاهر الصراع ما بين القديم والجديد في العلاقات الانسانية وبنية المجتمع المادية. حركة التنوير يتنازعها في الغالب تياران متعارضان. تيار يؤازر الجديد وتيار يؤازر القديم. كل تاريخ البشرية هو تجسيد لهذا (الصراع) مع كل ما اقتضاه هذا الصراع من ارباح وخسائر على مستوى الأرواح والممتلكات، لكن المحصلة الاساسية كانت دائما وابدا تميل لمصلحة الجديد وان بشكل نسبي. وبالرغم من وضوح اسس الصراع بين قوى حركة التنوير وشهادات الدم المقدمة لاهداف هذا الصراع الا ان كل المنتمين الى حركة التنوير (يعلنون) ان هدفهم هو مصلحة الناس والبشرية جمعاء. كل اطراف حركة التنوير في الماضي والحاضر تنبهت لاساليب ادارة الصراع وتحديدا أسلوب القوة ورفضت كلها من حيث المبدأ هذا المبدأ.. لكن تاريخ الصراع بين أطراف حركة التنوير لا يقدم الا أدلة صارخة على عدم المصداقية المتجلية في الحروب والصراعات التي اودت بحياة ملايين الناس ودمرت منجزات الانسان في الحياة الانسانية والطبيعة. حتى حركات التنوير التي حاولت عبر التاريخ اجتناب السبل الدامية للصراع انتهت في أكثر من محطة تاريخية وفي اكثر من بلد الى الوقوع في شراك المواجهات العنفية. عندما انقسم العالم باسره الى كتلتين متناحرتين وبالرغم من كل دعوات التعايش السلمي بين النظامين، جرى تأصيل الجانب العنفي في الصراع حتى نهايته المأساوية المتمثلة بسقوط الاتحاد السوفييتي والدول المتحالفة معه. صحيح ان الطرف الرئيسي الذي نظر للعنف ومارسه على الارض هو الذي يتحكم في مصير عالم اليوم. الولاياتالمتحدة هي التي تعتمد اليوم سياسة القوة العسكرية لدرء الفوضى العالمية التي يمكن ان تحدث نتيجة هزيمة الخصم السوفييتي وضعف المنظمات الاممية كما يقول الامريكان. يتضح ذلك من خلال تفويض الادارة الامريكية الحالية لحكومة شارون لادارة الصراع من الفلسطينيين في الاراضي المحتلة وفي اعتماد بعض الاساليب المشابهة في العراق. ومع ذلك، هل يمكن القول إن لا جديد في الواقع الجديد؟؟ الصراع بين الجديد والقديم لم يتراجع بل زاد تفاقما، ولنا فيما يحدث في كل البلدان العربية دون استثناء من صعوبات تواجه مشاريع الاصلاح دليل على ان جوهر الصراع لم يتغير. لكن دليلا اخر لا يقل اهمية يعبر عن نفسه ايضا في كل البلدان العربية دون استثناء. ويشير هذا الدليل - على توفر مساحات أكبر للعمل السلمي في ظل تنامي المشاعر الديمقراطية وحقوق الانسان من جهة وتهافت سياسة ولغة التبريرات التقليدية للركود من جهة اخرى. لقد تعززت أكثر من اي وقت مضى لغة الحوار والاعتراف بالاخر وضرورة مشاركة الناس في شؤونهم الخاصة والعامة حتى وان كان ذلك لا يزال يسير بخطوات متعثرة على مستوى التطبيق العملي يمكن القول بحذر بالغ إن ثقافة جديدة لادارة الصراع بين الجديد والقديم تنمو وسط غابة كثيفة من علاقات واشكال الصراع القديم.. الذين يتصدون لرعاية النبتة الجديدة في البلدان العربية والاسلامية هم.. التنويريون.. الذين يعودون اليوم أكثر من اي وقت مضى لاستلهام فكر وتقاليد حركة التنوير في البلدان المتقدمة.. التنويريون هناك استعاضوا من خلال تطور تاريخي واقعي بمعايير الخصومة الجدلية بدلا من معايير العداء بين كافة التيارات التنويرية لذلك وصل إلى مراكز اتخاذ القرار هناك جنبا الى جنب اليمينيون المتطرفون واليساريون والمسيحيون والمسلمون واليهود في البلدان العربية والاسلامية وتحديدا في بلدان الخليج تبدو تعقيداتنا أقل على المستوى العرقي والمذهبي. لذلك يقدم واقع هذه البلدان حقلا ملائما لحركة التنوير بكل رؤاها وتوجهاتها. صحيح ان ارضية هذه الحركة هي امتداد بهذا الشكل او ذاك لارضية حركة التنوير الاقليمي والعالمي، لكن حركة التغيير تلامس الجميع على الكرة الارضية. ان أطراف حركة التنوير في بلادنا لا تزال لسوء الحظ تستند في اغلب مواجهاتها الى معايير العداء بدلا من معايير الخصومة المشروعة. في الاوساط التنويرية يجري تداول مفاهيم ومفردات تستنجد بالزندقة والتكفير او بالصراع الطبقي او بالمرجعية مع القول بمشروعية الاجتهاد، لكن جذر العداوة هو الذي يلقي بظلاله على المقاربات الفكرية بدلا من جذر الخصومة ومع الاعتراف النظري بضرورة السلم الاجتماعي في الخصومات الفئوية والذي قطع شوطا ملموسا في مؤتمرات الحوار الوطني يبقى الامل الوحيد لتجاوز روح الشك والعداء المتبادل بين اطراف حركة التنوير هو بنقل روافع التضاد من العداء الى الخصومة المشروعة كما نادى بها فولتير والامام الشافعي.