في هجيع ليل متاخر، هاتفته قبل نحو سبع سنوات فوجدته مثلي مثقلا بأوجاع الحياة وملل الركود والسلم، قلت له شاكيا: لقد اغرقتنا محطات البث المرئية والمسموعة بهابط الأغاني بغثها وغثيثها.. لقد أصبحت الأغنية الهابطة والبليدة تتصدر البث وتسجل على ملايين الأشرطة التي تتلاقفها ملايين الأيدي، إنها (طليعة) العصر!! إنهم يفسدون الذوق العام لدى عامة الناس ويغتالون الجمالية الفطرية ويشوهون براءة الذوق وبساطة المعاني وسلاسة الإيقاعات التي تتسلل إلى أعماق المشاعر الحسية لدى الإنسان وتبهج وجدانياته.. لقد هبطت الأغنية العربية وعرتها الكثير من المعاني ورموز المفردات وبذاءة الإيماءات حتى واقع العيب!!.. إن (فناني) الأغاني الهابطة من مطربين ومخرجين ومؤلفين يقومون بحشو مسامع عباد الله آناء الليل واطراف النهار بما هو بليد ورديء وقبيح ومستهلك.. قال لي وهو الذي يمثل لي وللكثير ممن ينفثون أوجاعهم وشرر غضبهم على كل معوج وهابط.. بالرغم من عدم متابعتي للأغاني العربية إلا أنني اشيح بوجهي أحيانا أمام قبيح البث من الأغاني. ثم أردف قائلا: أتعلم أنني أواجه ايضا نفس الهبوط في ادائية بعض محرري الصحف العربية؟.. هؤلاء الذين يغرزون أعقاب سجائرهم في عيون النصوص المتألقة، ويشوهون أيقاعاتها الموسيقية والاجتماعية، بل إن بعضهم يصل به الهبوط إلى حضيض ملاحقة المفردات المستنيرة مفردة مفردة ويطفئها بلذة مفرطة!! إذا كان يؤرقك هبوط الأغاني فإن ما يؤرقني هو هبوط بعض المحررين في الصحافة العربية!! واختتم أبو سامر حديثه بمجاراتي بطريقة تجمع بين الود والتميز: ما أكثر ما يؤرقنا في هذا الزمان الرديء وكل يغني على ليلى مؤرقاته!!؟ سبع سنوات والواقع السيئ يتقدم على مظاهر الثقافة السائدة التي تقول إن مجتمعاتنا العربية هي مجتمعات محافظة ومتدينة ومتمسكة بالأخلاق العربية الإسلامية.. ثقافتنا السائدة تقول إن الانحلال الأخلاقي وبرمجة إفساد الذوق العام وكل ما يمكن تصوره من رذائل وموبقات هي سمات غريبة على مجتمعاتنا العربية والإسلامية. في غمرة فعاليات الأولمبياد بأثينا الأخيرة ووسط فرح الناس وإعجابهم وتفاعلهم مع تجليات الإبداع الإنساني وتجلي الروح الرياضية بأرقى معانيها وما تحمله من معاني الألفة والمحبة والسلام، لم يجد أحد (نواب الشعب) في إحدى البرلمانات العربية ما يشغل به نفسه وشعبه من مفيد القول والعمل سوى الاعتراض علنا على نقل فعاليات الأولمبياد على القنوات الفضائية بحجة مشاركة النساء في هذه الألعاب معتبرا ذلك مصيبة كبرى وتخدش العفة (الشرق الأوسط في 2004/8/25م) أما أحد المشاركين في أحد الاستفتاءات الإذاعية حول ما يبث من (فيديو كليبات) تحتقر الإنسان وتمجد إسفاف الذوق، فقد بدأ مداخلة طويلة حول أضرار هذه الأعمال وتعارضها مع قيمنا وتقاليدنا الراسخة مستشهدا على ذلك بأنه قد شاهد (البرتقالة) أكثر من عشرين مرة ولم تؤثر عليه!! عندما طرحت هذه الهموم على الصديق الفاضل عبدالرحمن بن سليم الخبير المعتد بالتراث الإسلامي وسألته إن كان السبب في سيادة هذه الأعمال (الفنية) الفجة يعود إلى نوع من انتقام الواقع الحيوي والمتجدد على توليفة أيديولوجية ملفقة يختلط فيها التأويل السياسي والديني والاجتماعي وبحكم تكوينها الانتقائي تتهاوى أمام حيوية الفوضى؟ انفجر أبو فيصل كعادته مؤكدا أنه لا يرى فيما يحدث غير بعد سياسي محكم الإعداد ومحدد الهدف والوسائل.. قولا واحدا.. مضيفا كعادته.. ثم مستطردا: هل تصدق بأنني عندما أشيح بوجهي عن المنظر أفكر جديا باغتيال (س.أ) مخرج إحدى نسخ ما يسمى بتلفزيون الواقع. ليس هذا فقط بل إنني انخرط في تفاصيل سيناريو هذا الاغتيال. بين اغتيال (الفن) السائد ودعوات وإغراءات وإمكانيات هذا الفن يحتار العقلاء ولا يحب الشباب لعب دور المريدين لهؤلاء العقلاء، أزعم بأن الأكثرية الساحقة من الشباب يتابعون هذه الاعمال الهابطة ليس عن قناعة بأهميتها أو فائدتها بل بحكم وجودها وصوتها وصورتها. وإذا كان البديل هو التوليفة الأيدولوجية التي جرى الحديث عنها فمن حق علماء النفس أن يتحدثوا عن مخزون المشاعر الهائل لدى الشباب في الرغبة لبناء شخصيتهم المتميزة وتفردهم حتى ولو كان ذلك عبر فوضى السائد، من هذا السائد ما يطرح في الفضائيات الموجهة وتحديدا المحلية. يمكن القول وبدون مبالغة إنه وبعد رصد حريص على البحث عن بديل، يأتي هذا البديل المزعوم ليمثل تحريضا مباشرا على الصدود عما فيه من لغة خشبية فجة وادعاء أبوي ربما كان مخلصا لكنه مثير للشفقة إن لم يكن للازدراء.. الحلول لمثل هذه النوازع المعقدة لدى الإنسان وبخاصة فئة الشباب لن تأتي بوصفات جاهزة أو معلبة بل بتواصل الناس وتبادل الخبرات فيما بينهم حول ما هو جميل وماهو قبيح وتفاعلهم عبر آليات تم تجريبها في مجتمعات أخرى وامتلك الناس من خلالها إمكانية استخراج لآلىء الحياة الجميلة من براثن التوحش في الطبيعة والإنسان.