أكثر ما يُؤزّم العلاقة ما بين الصحافة وأجهزة الخدمة العامة ، هو تلك الرؤية الملتبسة بين الطرفين ، فالصحافي يكتب في الغالب تحت وطأة الشعور بأن هذه الجهة أو تلك تقيم حمى حول أعمالها ، وأنها تحاول أن تحجب عنه الوقائع بأي شكل ، حتى راجت بعض القناعات مثل : لا تفش سرك لصحافي وما في حكمها ، والجهة نفسها تردّ حين تردّ أو تعقب تحت وطأة الشعور بأن هذا الصحافي أو ذاك يُحاول أن يقتحم أسرارها بأسلوب الحرامي لينتزع من المعلومات ما لا يحق له أن يأخذه من وجهة نظرها .. رغم كل ما يدور من الحديث عمّا يُسمى بالشفافية ، وهي أكثر النكات فجاجة وأقلها استدعاء للبسمة . هذه المقاربة للعلاقة بين الطرفين أوجدت شرخا مفزعا لا يمكن رتقه ، مما سهّل فرصة ضياع الحقيقة بينهما ، فالجهة موضوع الانتقاد تستطيع بمنتهى السهولة أن تتخلص من أي نقد لا يروقها بأنه : كلام جرايد ، وأنه لا صحة لما ذكر ، وهذا اتهام علني وصريح بالكذب .. في حين يجد بعض الصحافيين في هذا الجو الفرصة السانحة لابتزاز موقع ضغط يُحقق لهم ما يريدون من الخدمات لتمرير وساطاتهم ، ويبدو أن هنالك نوعا من التواطؤ من الطرفين للقبول بهذه الصيغة من العلاقة طالما أن الجهة أيّ جهة تستطيع أن تتحلل من النقد الموجه لها بوصفه بأنه كلام جرايد وأنه لا صحة له ، وبالتالي لا أحد لديه الاستعداد أن ينفي هذه التهمة أو يثبتها ، وطالما أيضا أن بعض الصحافيين لا يدافع عن نفسه تجاه تهمة الكذب ، ويقبل بهذه الإهانة العلنية مقابل استخدام موقعه واستثماره في تحقيق بعض الخدمات التافهة . أتحدث عن البعض وهو بعض غير قليل من الجانبين ، لا شك أنه أسهم بشكل واضح في تكريس هذه التناقضات ما بين القول بكلام الجرايد بمعنى أنه كلام لا وزن ولا قيمة له ، وهذه الحفاوة المفرطة التي يجدها بعض المراسلين.. لا أدري كيف طافت هذه التداعيات في ذهني وأنا أقرأ رسالة شخصية بالغة التهذيب تلقيتها من الدكتور بندر العيبان رئيس هيئة حقوق الإنسان ردا على ما سبق وأن كتبته قبل أسبوعين في هذه الزاوية تحت عنوان : حقوق الإنسان ومدن خارج التغطية ، الرجل لم يستخدم عبارة لا صحة لما ذكر وأخواتها التي ألفناها ، وما عادت تحرك فينا شعرة ، وإنما استعرض بإسهاب ما قامت به الهيئة وبرامجها ومشاريعها من وجهة نظره ، وأفصح عن استعداده لقبول كل الآراء والانتقادات ، وكان بوسعه أن يكتب تعقيبا مباشرا للجريدة يقول فيه : إنه لا صحة لما ذكر وعلى الكاتب تحري الدقة فيما يكتب ، أو أن عليه أن يتصل بنا قبل طرح الموضوع ، وهنا سينتهي الأمر ولن يجد من يسأله مثلما أنني لن أجد من يسألني ، لكنه اختار أن يتبنى الحوار وسيلة لاحتواء الاختلاف في الآراء ، وهذا ما نحتاج إليه لتتخلص الجهات الخدمية من تهمة الحمى المسيّج بالأسوار ، ويتخلص الصحافي الباحث عن الحقيقة من تهمة الحرامي الذي يتلصص لجمع الإدانات .