يقال إن الإغريق مولعون بنسبة الأعمال إلى مؤلّف ما، فإن لم يجدوه اخترعوا لها مؤلفا. وهو ما أشار إليه إمام عبد الفتاح إمام مترجم حكايات إيسوب، ولهذا نسبوا كثيرا من الحكايات الشعبية اليونانية إلى إيسوب، كما نسبت كثير من القوانين الساخرة، لاحقا، إلى (مورفي) في ما عرف ب (قوانين مورفي) الشهيرة، كما نسب العرب والترك كثيرا من النوادر والدعابات إلى جحا. وسأكتفي في هذه العجالة باختيار بِضع حكايات تلامس ظواهر في حياتنا، وتعبر عنها أحسن تعبير. في حكايات إيسوب أكثر من حكاية تسخر من الجعجعة واللعلعة والظواهر الصوتية. وهي ظواهر قديمة، لكن التقدم التقني في أيامنا هذه زادها وضوحا وصخبا وحضورا بعد اختراع المِصدح (الميكرفون) وتطور تقنيات الاتصال. ومن تلك الحكايات الأيسوبية حكاية الأسد والضفدعة. فقد شدَّ انتباهَ الأسد ما يحدثه نقيق الضفدعة من ضجة، وقد ظنه في البداية يصدر عن حيوان كبير الحجم قد ينازعه السيادة على الغابة، ولذلك تتبع مصدر الصوت حتى شاهد الضفدعة تخرج من البركة فجرى إليها، ووضع قدمه فوقها لسحقها وهو يقول: "عجبا! حجم مثل حجمك يصدر هذا الصوت العظيم!". وحق للأسد أن يعجب من جعجعة لا تتناسب مع حجم وقدرات صاحبها على كافة المستويات. وللمغرمين بقوة المنطق، والمولعين بفنون البيان والبلاغة يرى إيسوب أن الخطب البليغة التي يجري وراءها المفوَّهون وضحاياهم من السذّج والبسطاء لا تحل قضية، ولا تعالج مشكلة. وقد دعا أرنب بري مفوه ضالع في أساليب الخطابة وفنون الكلام زملاءه إلى اجتماع عاجل لمناقشة أوضاعهم بين الحيوانات. وكما يفعل، هذه الأيام، البلغاء من مناهضي العولمة الاقتصادية والثقافية، وقف الأرنب خطيبا طالبا مساواة الأرانب ببقية الحيوانات الأخرى، منددا ومستنكرا وشاجبا كل شكل من أشكال التمييز التي تمارس في الغابة. لكن الفصاحة والبيان والبلاغة وقوة المنطق لا تكفي، فبعد تلك العاصفة الكلامية البليغة، والتصفيق الذي ألهب الأكف وقف الأسد قائلا: "خطبة عصماء يا ذا القدمين المكسوتين بالشعر، لكن ينقصها ما لدينا من مخالب وأنياب!" ومنطق الغابة هذا لم يتغير بل زاده التقدم المعرفي والتقني عنفا وشراسة. وللذين ما زال التاريخ يعيد اجترار نفسه أمامهم دون أن يستفيدوا من دروسه وتجاربه السابقة، وللذين يتجرعون النكسة تلو الأخرى، يحاول إيسوب أن يؤكد لهم ما للذاكرة المتقدة الحاضرة من أهمية. وأن التاريخ لا يعيد نفسه إلا لذوي الذاكرات المثقوبة. ويعبر إيسوب عن هذا المعنى في حكاية حشرة الحصاد والثعلب. فقد حاول أبو الحصين استدراج حشرة الحصاد بكلماته المعسولة بغية التهامها، فقالت له: "لقد أخطأت يا صديقي! إنني حذرة منكم منذ ذلك اليوم الذي رأيت فيه أجنحة الحشرات في روث الثعالب". وإذا كان المخلب والناب اللذان أشار إليهما سيد الغابة في قصته مع الأرنب المفوَّه يرمزان للقوة، فإن القوة كذلك ليست كل شيء، ولا فائدة من القوة في غياب الرؤية السليمة القادرة على تشخيص المشكلات. وفي حكاية أخرى من حكايات إيسوب يحسد الإنسان المخلوقات القوية والسريعة والمحلقة وينسى أن الله قد منحه العقل وهو أعظم قوة على الإطلاق. وعن التأكيد على سيادة العقل في حكايات إيسوب تختلف الشمس مع ريح الشمال أيهما أقوى، فتمثل الريحُ القوةَ وتمثل الشمسُ العقل. وكان الرهان بينهما أن الأقوى هو من يجبر عابر سبيل على خلع ملابسه. وجربت الريح حظها أولا غير أن عواصفها القوية العاتية جعلت عابر السبيل يلف ملابسه حوله بإحكام، وعندما هبت بشكل أعنف اضطره البرد إلى أن يضع على جسمه ملابس أكثر. وعندما تعبت الريح أسلمت الرجل للشمس. سطعت الشمس في البداية بحرارة معتدلة، جعلت الرجل ينزع معطفه، ثم التهبت وتوقدت حتى عجز عن تحمل حرارتها فخلع جميع ملابسه، إن الإقناع وهو من وظائف العقل أعظم تأثيرا من العنف الذي هو من وظائف القوة. إن القوة وحدها لا تكفي. فكم من الإمكانيات والقدرات وعناصر القوة قد أهدرت بسبب الطيش وتحكيم العاطفة وتعطيل العقل والمنطق. إن إدارة الصراعات في أيامنا هذه تعتمد على القوة والعقل معا، وليس على النقيق والانفعالات والعواطف والقصائد العصماء التي لم تحقق شيئا على مستوى أي صراع. فإذا حرم المرء من القوة والعقل معا تصرف كما تصرفت الضفدعة التي أرادت أن تصبح بحجم الفيل فنفخت نفسها حتى انفجرت. ومع أن الصراع ليس وصفة ناجحة دائما لحل الصراع فإن هنالك من لا يجد له دورا خارج تلك النزاعات، ومن هؤلاء صنّاع العنف وأصحاب الحناجر الفولاذية المجلجلة بالتحريض على العنف. ويمثلهم في هذا الاتجاه صياد السمك الذي طرح شبكته في جدول ماء، وعندما وصلت إلى الضفة الأخرى من الجدول وضع حجرا على طرف الحبل ليضرب الشبكة ضربا خفيفا حتى يثير السمك فيدخل إليها. ورآه أحد الأهالي فأخذ يلومه على تعكيره ماء الجدول الصافي الذي يشربون منه. قال الصياد: "لكني لابد أن أعكّر ماء الجدول على هذا النحو و إلا متُّ من الجوع"!! وقاكم الله جميعا شرّ من يعكر المياه ليصطاد فيها.