في كتابه (عالم ضاحك) وتحت عنوان (لكل شعب من يضحك عليه) يشير الأستاذ خالد القشطيني إلى قذائف الضحك المتبادلة بين شعوب العالم. فكما يحمل الأمريكان والإنجليز صورة نمطية عن العرب يحملون كذلك صورة أخرى عن الفرنسيين تعبر عنها النكات والمسلسلات الكوميدية. وفي عالم مولع بالتعميم يتعذر المحافظة على نقاء الصورة، أو تحصينها ضد القولبة والتصنيف. قلائل هم الذين نجوا من مخالب التعميم، ونظروا للعالم بكل ما فيه من تنوع وتعدد نظرة موضوعية، واتسعت صدورهم لكل صور الحياة على هذا الكوكب، وكثيرون أولئك الذين يقعون في مصيدة التحامل والتعميم، وهي نزعة لا تختص بها ثقافة دون أخرى. وقد نشطت عند احتلال العراق وموقف الفرنسيين المعارض للسياسة الأمريكية النكتة الموجهة ضد الفرنسيين أكثر من قبل، فكرست بعض المواقع الإلكترونية صفحات خاصة للتنكيت عليهم، ولم يثر ذلك ضحك رواد الموقع من الفرنسيين بل حنقهم. وقد علق أحد المشاركين الأمريكان على التعليقات الغاضبة قائلا: "لماذا يضيق الأوروبيون ذرعا بالدعابة.. إننا ننكت، والتنكيت على القوميات الأخرى ليس بدعا إنه مجرد احتجاج ضاحك!". وقال آخر: عندما يتعلق الأمر بالتنكيت على القوميات فالتنميط وارد لكننا لا نكرهكم! ويذكرني هذا التعليق بقول سومرست موم: "لا تستطيع أن تشعر بغضب تجاه أي شعب عندما تضحك عليه". الفرنسيون كذلك يتعالون على ثقافة رعاة البقر، وعلى العنف ولغة الرصاص في المجتمع الأمريكي، ويتخذون ذلك مادة للفكاهة. والإنجليز ينكتون على الأيرلنديين، واوروبا كلها تنكت على اليهود. الظاهرة موجودة حتى ضمن المجتمع الواحد والثقافة الواحدة. وبين قرية وأخرى. لكن النكتة مهما كانت عنصرية ومتعالية ومتحاملة ومزعجة فإن إزعاجها لا يتعدى إزعاج (النباح) طالما أنها تستخدم الكلمات بدل اللكمات وسيلة للتعبير عن ذلك التعالي والتحامل. أما حين تخرج عن إطار الكلمات إلى الفعل فإن الأمر، والحال هذه، قد تعدى مرحلة العنف اللفظي إلى العملي. أي أنه قد تجاوز مرحلة (النباح) إلى مرحلة (العض). إن النكات وبالرغم من تحاملها لم تفسد للود قضية بين الشعوب والثقافات المختلفة. وكان ممكنا أن تجيب عن القذيفة الهزلية بقذيفة أقوى. وسيفوز في هذه الحرب الأخف ظلا والأسرع بديهة. وإذا كان الضحك وسيلة تصحيحية فلماذا لا يتقاذف الناس بالنكات؟ أليس من الأفضل أن تنشب حرب فكاهية عالمية بدلا من حرب عالمية ثالثة مدمرة؟ في لقاء صحفي مع كوميدي أمريكي من أصل عربي أعرب عن أمله في تغيير الصورة النمطية للعربي القابعة في ذاكرة الأمريكي، وذلك بمقارعة الضحك بضحك مثله. لكن يبدو لي أن الجهود المبذولة في هذا السبيل ليست أكثر من صيحة في واد، بعد تلك الموجة من العنف، أي بعد أن نبتت للغة مخالب وأنياب، وتحولت الحناجر إلى خناجر، ولم تعد المسألة مجرد نكتة منحازة تثير الضحك أو الإزعاج في أسوأ حالاتها. فمهما حاولت أن ترسم صورة مشرقة ستجد من بني جلدتك من يشوهها. سوف تبني ليهدم غيرك ما تبنيه. إن رسم صورة إيجابية على المستوى القومي أو الاجتماعي يستغرق زمنا طويلا، ويتطلب جهودا كثيرة متواصلة، أما تشويه تلك الصورة الإيجابية فيمكن أن يتم بين ليلة وضحاها وعلى يد قلة قليلة. وفي عالم موبوء بالعنف ونزعة التعميم لم يعد ممكنا لك أيا كانت انتماءاتك أو قناعاتك أن تعلق لافتة تقول: "الملامحُ، يا من يحدق في وجهيَ الآن بوصلة كاذبةٌ.. والملابس مثل الملامح، مثل العناوين محض سراب! لغتي وحدها الطريق إلى الضوء فاصغ إلي قليلا.. لتختصرَ الليلَ.. تجتازَ حزنَ المسافةِ بيني وبينك".(*) سوف يحدق موظف الجوازات في وجهك ويعتبرك مذنبا ولو لم تثبت إدانتك. أصبحت ضحية انتمائك العرقي والجغرافي. يفعلها المتخلف وضيق الأفق ويحمل أوزارها الأبرياء. وكما نستخدم الكلمات لتأليف النكتة وإيصالها، نستخدم الكلمات، كذلك، للتعبير عن الفكرة. أما حين تتحول الفكرة إلى برنامج من العنف الأعمى فهذه هي الكارثة. من المبررات العرجاء التي يتبناها صناع العنف أن الجرائم التي ترتكب بحق العزل والآمنين إنما تتم للفت أنظار الرأي العام إلى عدالة قضيتهم، ويا لها من عدالة تقتل الأبرياء!! ألا توجد وسائل أخرى أكثر رقيا وتحضرا للفت الأنظار؟ ومتى كان العنف وسيلة صالحة للإقناع؟ في خرافات إيسوب حكاية ذات دلالة عميقة على أن العنف ومهما بلغت شراسته لا يؤدي إلى النتائج الإيجابية التي يؤدي إليها الإقناع، وللإقناع أبواب كثيرة يمكن طرقها. قال الراوي: اختلفت الشمس مع ريح الشمال: من منهما الأقوى؟ فاتفقتا على الاعتراف بأنه هو الذي سينتصر ويجعل المسافر يخلع ملابسه! أما الشمس فقد اختفت وراء سحابة تنتظر، وجربت الريح حظها أولا، غير أن عواصفها القوية جعلت الرجل يلف ملابسه حوله بإحكام، وكلما ازداد عصفها ازداد الرجل تشبثا بملابسه، وأضاف إليها ملابس أخرى. وفي النهاية تعبت الريح وأسلمته إلى الشمس، وحينئذ خرجت الشمس من وراء السحابة وبدأت تضيء وترسل أشعتها بكل قوتها نحو المسافر الذي بدأ يحس الحرارة والدفء فخلع معطفه، وإذ أخذت الحرارة ترتفع شيئا فشيئا خلع كل ملابسه وغطس في النهر. ترى متى يحذو العالم حذو الشمس في طرق التحاور وسبل الإقناع. (*) النص المقوس للكاتب.