خلال السنوات العشر الماضية، جاءت كبرى شركات بيوت الخبرة والاستشارات الإدارية العالمية إلى مختلف الأجهزة الحكومية والوزارات، لكي تزودها بالتوصيات والخطط مقابل أجور ضخمة بلغت ملايين الريالات في كلّ مرّة. وهذا ما يجعلني أتساءل حول ما إذا كانت هذه الأجهزة الحكومية والوزارات تُدار من جانب المسؤولين فيها أم من جانب بيوت الخبرة الأجانب (ذات التوظيف السعودي القليل)!! ؟ ويبدو لي وكأن البلاد ليس لديها ما تقدّمه سوى الأموال الطائلة لبيوت الخبرة وشركات الاستشارات الإدارية، لكي يزودوها بأفكار وخطط لا يمكن تنفيذها، في الغالب. ويقدّم جميع المستشارين من بيوت الخبرة رسوماً بيانية معقّدة، وأرقاماً مبهرة وكلاما إنشائيا أكثر من رائع، يجعل العميل يشعر أن المستشارين هُم منبع المعرفة والحكمة. كان الأمر أشبه بسرقة بنك لكن بشكل قانوني وفي هذه الأثناء، تم خلق طبقة جديدة داخل الأجهزة الحكومية والوزارات من المنسقين السعوديين، لا يعرفون إلا القليل سوى المستشارين الإداريين من بيوت الخبرة. إذاً، لماذا لا نسلّم مفاتيح البلاد إلى هؤلاء المستشارين؟. لقد تمّ إنفاق مليارات الريالات خلال السنوات القليلة الماضية على أفكار وخطط كان لها أثر محدود جداً، أو كانت غير متكاملة أو وُضعت على الرفّ في أغلب الأحيان. ويعجّ العالم اليوم بالمستشارين الإداريين من بيوت الخبرة. قد انبهر العديد من الشركات والبلدان بالمستشارين. ففي الولايات المتّحدة، أنفقت شركة AT&T 500 مليون دولار على المستشارين خلال خمس سنوات فقط. وعلى سبيل المثال، يقال إن الحكومة البريطانية أنفقت من عام 1997 إلى عام 2006، 20 مليار جنيه إسترليني على المستشارين الإداريين، الأمر الذي دفع مجلس العموم البريطاني إلى التساؤل حول عائدات مثل هذا الاستثمار. بيوت الخبرة دائماً تقول: إن جودة أدائهم ونتائجهم تعتمد بشكل رئيسي على جودة الأسئلة التي يتلقونها من عملائهم. وهذا صحيح جزئياً لأن العملاء السعوديين والخليجيين بحثوا عن "مشاريع عظيمة" تجعلهم فريدين من نوعهم. وعندما كانت منطقة الخليج تزدهر في أواسط عام 2000، روّج المستشارون من بيوت الخبرة إلى دول الخليج فكرة الصناعة باعتبارها الطريق إلى المستقبل من خلال معامل صهر الألمنيوم. ولم يهتم إلا بعض المعنيين بالتفكير في ما إذا كان الغاز متوفراً لجميع دول الخليج، بما فيها السعودية. لكن ينبغي علينا أن نلوم أنفسنا لأن العديد من صنّاع السياسة والقرار بهروا بالأفكار العظيمة التي قدمها المستشارون الإداريون، في مجاليّ التنمية وتنويع الاقتصاد. في كتابه الجريء الذي نُشر عام 2005، تحت عنوان "غُشّ"، قال دافيد ريغ، الذي كان مستشاراً في احدى بيوت الخبرة: "لقد كنّا فخورين بالطريقة التي كنّا نتّبعها في عملنا، فقد كان الأمر أشبه بسرقة بنك لكن بشكل قانوني. وكان بإمكاننا أخذ أي شخص من الشارع مباشرةً وتعليمه بضع خدع بسيطة خلال ساعتين، ثم إرساله بسهولة إلى عملائنا مقابل أكثر من سبعة آلاف جنيه إسترليني في الأسبوع". وتمثّلت الخدع كما يقول ريغ "بالأكاذيب والأكاذيب والمزيد من الأكاذيب". وتعتمد السعودية على بيوت الخبرة بقدر اعتمادها على النفط. ولا بد لهذا النهج أن يتوقّف. كما ينبغي تشجيع القدرات المحلية. لكن المشكلة تكمن في حقيقة أنّه يتعيّن إنجاز جميع المشروعات خلال فترة زمنية قصيرة. لذا، يتم تشغيل بيوت الخبرة لكي ينجزوا هذه المشروعات (من خلال التوصيات والاستشارات) لأن بناء القدرات المحليّة يتطلب وقتاً. وإذا تم تنفيذ المشروعات خلال سنوات عدّة، فإن هذا سيوفّر الوقت الكافي لبلورة المواهب والأفكار المحليّة. وعندما يمتلك السعوديون ناصية التفكير، وليس بيوت الخبرة العالمية، فإن هذا سيخلق ثقافة التدقيق والمحاسبة والتحليل بعمق.