كلما اقتربت اللحظة الحاسمة زاد حضور فرانكفورت في أحاديثنا ومناقشاتنا. وكالعادة تفاوتت وجهات النظر بين رؤيتين متناقضتين: الأولى متفائلة والثانية متشائمة، ولكل صاحب رأي مبرراته. عندما طرح موضوع فرانكفورت في بداياته تم تشكيل لجنة تنظيمية تتولى التخطيط لأسلوب المشاركة في هذا الحدث الاستثنائي. كان من بين أعضائها الدكتور سمير سرحان بصفته رئيسا للهيئة المصرية العامة للكتاب وبوصفه مثقفا صاحب رؤية. لكن الظروف الصحية وقفت حائلا بينه وبين استكمال دوره. ككثيرين غيره يري الدكتور سمير سرحان أن فرانكفورت من أهم الأحداث التي تمر بها الثقافة العربية خلال هذا القرن، فالحدث يمنحنا فرصة مثالية للحوار مع الآخر ويضيف: فرانكفورت في حد ذاتها مكان صغير، لكن له معنى كبيرا، فهناك ناشرون من كل أنحاء العالم، إضافة إلى ما يحظى به المعرض من اهتمام إعلامي لدرجة أن هناك نحو 17 ألف صحفي يقومون بذلك. لا أدري مدى دقة هذا الرقم لكنه يتردد، وهناك فرصة حقيقية لعرض كل الأفكار التي أنتجتها البشرية خلال عام أو اثنين. ويشير الدكتور سرحان إلى ما يتسم به معرض فرانكفورت من كونه مخصصاً للاتجار في الكتب وهو أمر ناتج عن اختلاف في الظروف: كلمة الاتجار هناك لا تعني التحقير أو التصغير أو التخوف. إنها صناعة تنفق على الكتاب مبالغ طائلة. الواقع المختلف يؤدي إلى نتائج مختلفة: "المؤلف يأخذ حقه لأن مكاسب الناشر هائلة. هذه المكاسب تأتي عن طريق الجمهور الهائل من القراء. فعادة القراءة متأصلة لديهم منذ الصغر" تتمثل المشكلة لدينا في اضطراب الرؤية: "نحن خلطنا بين الواقعين: واقع الكتاب في المجتمع الشرقي حيث لا زلنا نحاول أن نعود القارئ على القراءة مما يجعل السوق لدينا ضيقة لا تتعدي نسبة القراءة فيها 3.5 بالمائة حسب احصائيات اليونسكو وبين واقع الكتاب في المجتمع الأوروبي الذي تصل نسبة القراءة فيه إلى أكثر من 70%، إضافة إلى ذلك يجب أن نضع في الاعتبار نوعية ما يقرأه الناس في المجتمعين" واقعان مختلفان رأى البعض أن فرانكفورت تمثل مناسبة لالتقائهما، وهو ما يتطرق إليه الدكتور سمير سرحان عبر سؤال افتتاحي يطرحه: "كيف نستطيع أن نصل هذين العالمين ببعضهما؟" السؤال يصبح أكثر إلحاحا بعد أحداث سبتمبر وتكريس مقولات صراع الحضارات ونهاية التاريخ: "نحن نحتاج إلى أن نصل لأرضية، كانت فرانكفورت أرضية مهمة، والخطوات التي تمت لا يمكن أن تكون سيئة، لكني أرغب في أن أقول أنه كان يجب- في تصوري- أن يكون هناك حوار مباشر بين المفكرين الأوروبيين والعرب. المشكلة أن المفكرين العرب أنفسهم مختلفون مع بعضهم ومع المصريين، وهناك من يردد أن المصريين يحاولون السيطرة على المناسبة. ليست هذه هي المشكلة الوحيدة فهناك أمر آخر بالغ الخطورة يشير إليه الدكتور سرحان: "لو نظرت إلى معظم المدعوين للمشاركة فستجد أنهم مدعوون فقط للتواجد وليس للقيام بنشاط ما، فالمصريون فيما عدا اسم أو اسمين كالدكتور جابر عصفور والدكتور صلاح فضل لن يقوموا بنشاط ما". الأسماء على ما يبدو تمثل مشكلة ثالثة حيث يرى الدكتور سرحان أن المشاركين بخلاف الاسمين السابقين وأسماء قليلة أخرى ليسوا إلا: "بعض الروائيين متوسطي الحال من الذين لم يبرزوا بروزا شديدا، إلى جانب هذه الأسماء نشرت مؤخراً صورة مفزعة لنجيب محفوظ وهو يعبر عن قلقه، ونحن نأسف على هذه الرمزية، فشيخنا قلق وشبابنا ذاهبون". غير أن القلق لا يقتصر على الأستاذ نجيب محفوظ على ما يبدو فحديث الدكتور سرحان يحمل قلقا ضمنيا: "عندما أختار مثقفا ما للذهاب لابد أن أحدد له نشاطا يفعله، إما أن يلقي محاضرة أو يجري حوارا أو يناظر ويشرح ويقدم جانبا من حضارته العربية أو الإسلامية. ينبغي أن نجعل المحيطين به يدركون ماهية هذه الحضارة ويؤكدون أننا لسنا ابن لادن. إنها فرصة للدفاع عن المعتقدات ومقارنة معتقداتنا بمعتقداتهم وثقافتنا بثقافتهم. أم أننا ذاهبون فقط حتي نقول لهم أن لنا فضلا عليكم من خلال استدعاء القديم؟ المهم هو كيفية استحضار القديم وعرضه. أن تقول لهم- مثلا- كيف اخترعنا الصفر وأنجزنا به حضارتنا. كيف تعاقبت الحضارات ووصلت إلى أوروبا؟ ما علاقتنا بالاستعمار وكيف ظلمناهم وظلمونا؟ ما علاقتنا بالدين وما علاقة الدين بالسياسة؟. @ أرى أنك تتحدث عن معرض فرانكفورت بصيغة الماضي وعلى اعتبار انه (كان) فرصة؟ * لا.. لقد قلت أنه فرصة لو تم بهذا الشكل.. أرجو ألا تضعي على لساني أنه كان فرصة. @ حسنا.. لكنك أشرت إلى عدد من الأسماء المشاركة باعتبار أصحابها متوسطي القيمة، ونحن لا نزال في مرحلة الإعداد.. فهل هناك فرصة لتصحيح الوضع؟ * لابد أن تكون هناك لجان أكبر من اتحاد الكتاب والمجلس الأعلى للثقافة، يجب أن تضم الهيئات الثقافية المختلفة سواء كانت خاصة أو عامة لتتولى اختيار الأسماء المرشحة ثم تضعها أمام المجتمع فيما يشبه الانتخابات، لكي لا نحصر أنفسنا في جزئية أن هذا الشخص جيد أم غير جيد، فالاختيار يجب أن يتم عن طريق ما أنجزه هذا المثقف طوال حياته من إنتاج فكري وأدبي وإبداعي حتي أتمكن من تقديمه. @ لو لم تمنعك الظروف من الاستمرار في عضوية اللجنة.. فما الأسلوب الذي كنت ستتبعه في اختيار المشاركين؟ * كنا قد اتفقنا فعلا على طرح نوع من الاستفتاء على الناس، وكان هناك وقت كي نجمع فيه الأسماء، ونقوم بتصنيفها. أنا أرى أن المشكلة الأخطر من الأسماء تتمثل فيما سيفعله من وقع عليه الاختيار في فرانكفورت. @ أشرت إلى أن (الناس) كانوا سيحددون الأسماء المشاركة، من هم هؤلاء الناس؟ هل هم المواطنون العاديون الذين تؤكد الاحصاءات أنهم منفصلون عن الواقع الثقافي، أم أنهم المثقفون أنفسهم الذين لا يمكنهم عادة أن يتفقوا على أمر ما؟ * ليس كل المثقفين هم الجالسين على المقهى، هناك الاطباء والمحامون وأساتذة الجامعة وآخرون كثيرون على وعي شديد بما يحدث في المجتمع، لقد درجنا في التحدث عن المثقفين على انهم (العيال الصغيرين اللي قاعدين على القهوة بيشتموا). ليس هؤلاء هم المثقفين انهم جهلاء المثقفين، بل انهم مشاريع جهلاء! لكني اتحدث عن الذين حصلوا على قسط من التجربة العلمية والثقافية والاجتماعية ممن سافروا إلى الخارج واطلعوا على ما يحدث في العالم. هؤلاء لهم وجهة نظر في الحياة وفي الاشخاص وعلى دراية بفلسفة العالم، لكن هذا الذي يجلس ليكتب قصة نصفها جنس على مقهى البستان ثم يقول على نفسه أنه مثقف، أنا أرى أنه مشروع جاهل. @ في بداية حديثك أشرت إلى واقعين مختلفين تماما وأعتقد أن هذا التناقض هو أحد أسباب تخوف البعض من المشاركة في فرانكفورت.. * لا بد أن تشاركي بقوة لكن بالأسماء الصحيحة. لا يوجد شيء صعب. ولا يمكنك أن تخسري حرباً إذا اخترت قادتها بطريقة جيدة، أما لو كان (الجنرالات نص نص) فستخسرين الحرب مهما كان عدد جنودك. @ دائما ما نتعامل مع الأحداث الكبرى كما لو كانت مفاجئة.. فالمشاركة في فرانكفورت كان ينبغي أن تنطلق من قاعدة ثقافية عربية موجودة فعلا.. * القاعدة الثقافية موجودة لكنها ليست ملموسة. @ لكن الإحصاءات تشير إلى العكس ينطبق ذلك على عدد الكتب المطبوعة سنويا في الوطن العربي ونوعياتها والترجمات من وإلى العربية وغيرها من الأنشطة الثقافية. * لا تستطيعي أن تنكري وجود ثقافة في مصر من رفاعة الطهطاوي حتى طه حسين.. فمصر هي التي صنعت الثقافة وعصر التنوير العربي، وكذلك المملكة وسوريا ولبنان والعراق واليمن كان لها إسهاماتها الضخمة في الشعر والقصة. @ لكن هل هي ثقافة قادرة على المنافسة؟ * هي ثقافة لكنها تفرقت. فالعالم العربي لم يوحد نفسه ثقافيا لقد انعكست الفرقة السياسية على الثقافية، وحدث نوع من الشوفينية المصرية أي التعالي المصري على الثقافة العربية. هذا التعالي لم يجعل الثقافة العربية تشعر بالندية للثقافة المصرية، فأصبح الأديب هو طه حسين والمطربة أم كلثوم والفيلسوف زكي نجيب محمود أو عباس العقاد. @ وقد أحدث هذا رد فعل.. * بالتأكيد أحدث رد فعل، خاصة أننا تعاملنا مع العالم العربي في الوقت الذي كانت الدول العربية فيه تحتاج إلى مدرسين، وبهذا كانت العملية التعليمية مصرية مائة بالمائة وهذا ترك أثرا نفسيا. @ ألا يمكن أن يؤثر هذا بالسلب على المشاركة العربية في فرانكفورت التي كان ينبغي أن تقوم على رؤية موحدة؟ * من الممكن طبعا. وحسب ما علمت وأنا مقيم بالبيت ولم ترد لي معلومات مؤكدة، فإن كل بلد يرغب في أن يثبت حدوث طفرة لديه في التقدم الثقافي والعلمي يفوق أي دولة أخري، وبالتالي يصر على أن يكون له جناحه الخاص، وحتى الآن توجد مقاومة لفكرة وجود جناح عربي موحد. هناك سراي للعالم العربي يرغب البعض في تقسيمها على الدول. وربما تكون هذه المقاومة قد انتهت خلال الايام القليلة القادمة. @ ألا تري أن لهذه الرؤية ردود فعل سلبية؟ * لا.. كل دولة ترغب في عرض ثقافتها، وليس هناك عيب في ذلك. العالم العربي واحد في اللغة والدين والمعتقدات لكن بالتأكيد توجد أساليب مختلفة في التفكير، الخليج الآن متقدم جدا عنا علميا في المقابل لدينا أدباء أعلى مستوى. وهكذا يكون لدينا ما أطلق أنا عليه: التنوع داخل الوحدة. @ في مقابل قلق نجيب محفوظ وتخوفات المثقفين المصريين والعرب.. هل أنت متفائل؟ * بنسبة 50 % والنسبة قليلة بسبب الوقت وليس بسبب أي شيء آخر، لو كان لدينا الوقت كانت نسبة تفاؤلي ستزيد. @ سبب تخوف البعض ينبع من أننا لا نحقق النتائج المرغوب فيها على المستوى الدولي وبعض المثقفين ربطوا ما حدث في المونديال بما يمكن أن يحدث في فرانكفورت. * فرانكفورت ليست ملعب كرة، كما أنها ليست مدينة ستملأها بالشعر والفن والادب والمسرح، انها سراي صغيرة مساحتها 50 ألف متر. ستتضمن كتبا ومعارض فن تشكيلي وحرفا بيئية. لكن الأساس في تصوري أنهم "لو كانوا عاوزين يعملوا شغل" أن يكون هناك حوار بن المثقفين العرب والغربيين، الهدف ليس أن نذهب لنرى عددا من الكتب من الممكن أن نراها في أي مكان آخر. ليس الهدف أن نذهب لنرى "شوية حرف بيئية وقلل" ونقول هذا هو الفن الشرقي، أنه حوار والمونديال لا يساوي فرانكفورت. @ المقارنة بين الحدثين ليست مطلقة وإنما تركز على النتيجة.. * المونديال (بتاع ربنا) والعالم كله يتنافس فيه على ألعاب معينة وعلى رقعة واسعة من التدريب والانعكاس الحضاري والتكنيكي لكن في فرانكفورت الامور تتم بشكل مبسط يعبر عن حضارات الشعوب وسنظل نتناقش حول الشكل الحضاري والفكر العربي والغربي، وكيفية الوصول لفلسفة انسانية واحدة تؤدي إلى الهدف الاعلى المنشود الذي كان ينشده أرسطو وهو السعادة. @ أخيرا.. هل يمكن أن تمنح فرانكفورت انتشارا اضافيا للأدب العربي؟ * الكتب موجودة ومترجمة، لكن هل نجحت هذه الكتب؟ هذا هو السؤال، لذلك يتطلب الامر نقادا ومتخصصين يتحدثون هناك عن تاريخ الادب وتاريخ الحضارة ومقارنة الحضارات اما الكتب فمترجمة فعلا لقد وجدنا في المانيا وحدها نحو ستين ألف كتاب مترجما من العربية دون أن يشعر بها أحد. أقول هذا وقد كنت احد المسئولين عن الترجمة.. في المقابل قد تظهر قصة واحدة وتلقى رواجا شديدا مثلما حدث مع رانيا غازي التي اثارت ضجة في أمريكا وفرنسا. ليس لانها كاتبة جيدة "وقد تكون جيدة فأنا لم اقرأها" لكن لانها لمست عصبا عاريا في العلاقة بين الشرق والغرب. هناك أمور مثل هذه تحدث عندما تلمس عصبا عاريا. فالشعوب لها ضمير واحد يتحرك في الأزمات. زكي نجيب طه حسين