هل وصول النص إلى الهدف سهل .؟ للإجابة عن هذا السؤال نحتاج إلى معرفة الهدف, الذي يسعى الشاعر لإيصال نصه إليه, فإن كان الهدف بدائيا ً فالوصول إليه يتم عبر طرق شعرية بدائية, لا تحتاج إلى جهد ولا إلى لعب مباراة مع الرقيبين الداخلي والخارجي, بل تحتاج إلى أخذ اللغة الجامدة وصبها برداءة على القوالب القديمة, وبهذا يخرج الشاعر بنص لا يختلف عن الثرثرة الممزوجة بالتثاؤب الناتج عن الكسل والبلادة. ولكن هل هذا هو الشعر.؟ بكل تأكيد أن الشعر يختلف عن ذلك تماما ً, فالشعر الحقيقي هو تفكيك اللغة ومزجها بالقضايا والمشاعر والأحاسيس ثم إعادة تركيبها , لخلق عمل فني خاص بالشاعر, وهذا التعريف للشعر يحتاج لشاعر يعرف كيف يتعامل بوعي ٍ مع هدير اللغة وتداعيات الشعر التي تذبل وتموت كلما كثرت نقاط التفتيش في طريقها, ونظراً لأن تناول القضايا الكبيرة يتماس غالبا ً مع الخطوط الحمراء, فإن الشاعر المقتدر هو ذلك الذي يستطيع أن يقود التداعيات الشعرية بين هذه الخطوط والحواجز بمهارة تجعل الوهج الشعري دائم الاشتعال وتجعل القضايا حية داخل النص, وتمنح اللغة الشعرية بريقا ً ينساب في مساحات النص, بعيداً عن تأثيرات صعوبة المسالك, وهذه العملية المعقدة تحتاج لشاعر ٍ متفجر, ذي مواهب متعددة ونباهة فائقة, لينجز هذه العملية في زمن الوميض الشعري الهارب, بدلا ً من الالتفات إلى نداءات الرقيب بين المجاز والمحظور, فالشاعر الذي يفلت منه زمام النص ويبدأ نصه بتدمير القيم والثوابت والمكتسبات, شاعر لا يحسن قيادة التداعيات الشعرية, والشاعر الذي تموت بين يديه اللغة, ويخبو وهج الشاعرية وهو يرتعد من الخوف من حصار الرقيب على نصه, شاعر يفتقد الجراءة ولا يستحق أن يدخل مدائن الشعر, وهذه النظرة المتسمة بالتخطيط والتنظير, قد لا تنطبق على كل النص, فهناك نصوص تجتاح كالأعاصير ولا تمنح الشاعر فرصة التبصر بما حوله, لذا تأتي بقوة دفع ٍ عارمة تجرف كلما يقف في طريقها, وغالباً ما تكون هذه النصوص متعلقة بالعذاب الإنساني, الذي يفقد الشاعر كل وسائل السيطرة على مشاعره, لذلك يأتي النص متفجرا ً .. متجاوزاً .. مختصراً الطريق نحو الحقيقة , حتى وإن هدم في طريقه أشياء جميلة أو قناعات راسخة, وفي هذه الحالة فإن الشاعر القادر على التصرف بحكمة, يجب أن يشرع كل المعابر أمام النص وبعد هدوء العاصفة, يخضع نصه للمساءلة والقراءة, بعيداً عن حب الذات والانتصار للإناء, فإن كانت خسائر خروج النص للضوء ترجح بالمكتسبات فيجب أن يبقى النص في الظلام, وإن كان العكس صحيحا فليأخذ نصه طريقه للضوء . ولكن يجب على الشاعر ألا يقيس هذا الجانب وفق قاموس خسائره ومكاسبه الشخصية, فالدين والوطن والمجتمع والشعر والقيم والفضيلة كلها مقدمة على ذات الشاعر, الذي يعرف تماما ً رسالته في الحياة, أما الذي يجهل ذلك, فهو لا يستحق أن يحمل لقب شاعر, حتى ولو نُصب له عرش بين النجوم. وفق هذا التصور للشعر, وبقراءة فطنة لواقعنا المعاصر, يحق لنا أن نتساءل كم شاعرا حقيقيا لدينا.؟ وكم شاعرا من هؤلاء يستطيع أن يقود النص وفق المعادلة القادرة على الخروج بالنص من منعرجات المتاح والمحظور وهو بحالة اشتعال ٍ دائم, وكم شاعر يستطيع أن يكبت رغباته الجامحة لنشر النص المتجاوز, خصوصا ً أن الواقع العربي بحالة تحريضية دائمة للشاعرية على التجاوز. أترك لكم هذه الأسئلة لتأخذوها معكم إلى الأيام القادمة فقد تجدون لها جوابا واحدا يقول: لا شعراء لدينا, ولا شعر يتماس مع جراح الأمة حتى يحتاج إلى التجاوز للوصول إلى الحقيقة . فكل الأشعار بليدة وتدور حول أشياء تافهة.