أبدى دهشة بالغة حينما وصله صوت وداد عبر الهاتف، مظهرة حيرتها وارتباكها لأنها لم تجد أختها سعاد في البيت، وكانت تنتظرها بعد اتفاق مسبق. الهاتف لا يرد، وصوت الرنين يتكرر وسعاد لا ترد، وعليه أن يجيب عن السؤال الملح : متى شاهدت أختي للمرة الأخيرة؟ وصرخ عبر الهاتف مؤنباً وداد على سؤالها، أكد لها أنه لم يشاهد أختها منذ ما يقارب الأسبوعين، وأنهما أنهيا علاقتهما بشكل نهائي بعدما قررت سعاد رفض الزواج نهائيا، وقرر هو الالتزام بحياته الزوجية السابقة ليحافظ على أسرته من الضياع. جلس بعد الحوار الهاتفي،باسترخاء وهدوء،لم يشعر بالتعب رغم أنه تجول طيلة هذا اليوم في الأسواق والأماكن السياحية، وجلس مع أصدقاء كثيرين، وزار شقيقته وأمضى في بيتها ما يقارب الساعة قبل أن يعود إلى بيته، ومرّ على الدكاكين المجاورة ودفع ما تبقى عليه من الديون كما يفعل في بداية كل شهر حينما يقبض راتبه. ارتباك مفاجئ ونهض بتثاقل ورفع جهاز الهاتف وبدأ بالضغط على أرقام منزل أسرة زوجته،يجب أن يعيدها إلى هذا البيت وينهي كل المشاكل القديمة ويبني معها حياة مستقرة بعدما خرجت سعاد من حياته إلى الأبد،ستفرح زوجته بانتهاء علاقته مع سعاد، وستعود إلى الحياة الزوجية مطمئنة وسعيدة. قرّب سماعة الهاتف من أذنه وبدأ ينتظر ظهور صوت زوجته أو أحد اخوتها. لا يوجد أحد كما يبدو وعليه أن ينتظر قليلاً. يجب أن يتهيأ لاستقبالها، وعليه أن يمهد لحياته القادمة. سوف يقدم استقالته من هذه الوظيفة المرهقة. الآن أصبح يملك مبلغاً ضخماً من المال، وفي وقت آخر سوف يتمكن من بيع المجوهرات بشكل سري، وسيصبح ثرياً حتماً. فجأة شعر بارتباك مفاجئ يخرجه من أحلامه. كيف سيخفي ثروته الجديدة عن أنظار زوجته، وماذا سيقول لها إذا سألته من أين حصل على المجوهرات ورزم المال؟ أسرع إلى الحقيبة البلاستيكية المملوءة بالرزم المالية والمجوهرات، وحملها وسار باتجاه المطبخ. لم يفكر كثيراً حينما همّ بالصعود إلى الغرفة الصغيرة المبنية أعلى القسم الداخلي من المطبخ، فصعد بخطوات متمهلة متفادياً ارتجاج السلم الخشبي، وحينما أصبح داخل الغرفة أحنى رأسه متفادياً سقف الغرفة المنخفض، ونظر في كل الاتجاهات، ووجد بسرعة المكان المناسب لإخفاء ثروته الجديدة. حين أعاد الاتصال بزوجته، تراجع فجأة عن قراره. أعاد السماعة بلا مبالاة، وفكر بسرعة، وقرر أن الوقت الحالي غير مناسب لعودتها إلى البيت، وعليه أن يمضي فترة بمفرده ليحدد طريقة استغلاله للثروة، وفكّر في إبعاد زوجته عن البيت فترات عديدة، وابتسم وهو يكتشف أن الصدفة تساهم دائماً في سعادته. قبل ما يقارب السنة قادته الصدفة إلى مقهى صيفي. أراد أن يريح أعصابه بعيداً عن دوامة العمل، فأخذ إجازة قصيرة وذهب إلى أقرب مقهى، وجلس يقرأ جريدة. بعد فترة انتبه إلى عيون تراقبه. رفع رأسه فرأى وجه سعاد وابتسامتها وعينيها المملوءتين بالفرح. نهض بسرعة وتقدم منها وبدأ يسألها عن أهلها واخوتها وأصدقاء الطفولة في حيهم القديم. ومن يومها بدأ يرى سعاد بشكل طبيعي. تكررت مواعيدهما، واستعادا كثيراً من ذكريات الطفولة، وصارحته بإعجابها به حينما كانت مراهقة، وصارحها بحبه القديم المكتوم في صدره، واتفقا على زواج قريب. حين زار سعاد في شقتها، أبهرته مظاهر الترف والرفاهية. وعرف أنها فقدت زوجها قبل فترة، وورثت أموالاً ضخمة، وهي تعاني الآن الوحدة، وعليه أن يسرع في الزواج، وأن يمهد أمام زوجته القديمة لأنها ترفض إبقاء علاقتهما في الظلام. تعب العمر وألقى على أقرب مقعد جسداً منهمكاً. بدأ الآن يشعر بالتعب بشكل ضاغط. بذل جهداً شديداً في جولاته هذا اليوم، وعليه أن يرتاح قليلاً. سعاد أنهكت قواه في الأسبوعين الماضيين، والتعب الذي بذله لإقناعها بالعودة إلى العلاقة يوازي كل تعب عمره. ولكن لماذا تغيرت فجأة؟ أقنع زوجته بزواجه الثاني، وبرر أهدافه بحاجته إلى المال. سعاد أصبحت ثرية جداً، وسوف تساعد أسرته على تغيير الشقة الصغيرة وتسديد الديون وإكمال المفروشات، وشعر بسعادة سعاد حينما أصغت إلى رأي زوجته وهي تؤكد لها عبر الهاتف أنه رجل ويختار ما يريد وهي لا تقف عثرة أمام زواجه منها، ولكن بعد مرور فترة قصيرة بدأت سعاد تتذمر من هذه العلاقة، وتوجه أسئلة مستغربة عن طريقة إقناعه زوجته بزواجه الثاني، وأيقن حينها أن سعاد غيّرت مشاعرها لأن ما تسأل عنه لا يبرر لها رفض الزواج فجأة. حين قرر مراقبة شقة سعاد، اكتشف الحقيقة. استغرب في البداية خروج حسين من باب البناية، ولكنه امتلأ بالشكوك المتضاربة، وفي الأيام التالية أيقن أن سعاد استعادت حبيبها القديم، وحينها أعادته الذاكرة إلى الحي والأصدقاء والعلاقات العاطفية الملتهبة إبان عمر المراهقة. كان حسين مرتبطاً بحب سعاد، ولكن زواجها من رجل كهل وثري أبعدها عن الحي فجأة ليمضي فترة طويلة مع أحزانه ولوعته القاسية، والآن ظهر في حياتها من جديد ليسترد حب الماضي، ويحرمه من إكمال زواجه. حين فتحت سعاد باب شقتها شهقت وهي تراه يوجه إليها نظرة احتقار قاسية. لم تتوقع مجيئه بعدما أنهت العلاقة بحسم نهائي. طالبها بالابتعاد عن حسين لأنه متزوج وأب لطفلين وعليها أن لا تهدم حياته المستقرة،وسألته لماذا كان سيهدم استقراره الزوجي حينما وافق على الزواج منها. وحاول إقناعها أنه لم ينجب أبناء، وزوجته لا تنجب من الأساس، والأمر مختلف كثيراً، لكنها بدت مصرة على زواجها من حسين وهي تتشبث بذكريات الحب القديم. نهض من كرسيه وبدأ يدور في أنحاء شقته الضيقة،شعر بالندم الشديد لأنه تصرف هذا الصباح بحنق وتوتر. ونظر باتجاه المطبخ وابتسم وهو يعيد منظر الرزم المالية والمجوهرات إلى ذاكرته، فهو كان يريد الحصول على ثروة سعاد، والآن أصبحت ملكه دون أن يهدم حياته الزوجية. أخرجه من دوامة أفكاره صوت جرس الباب. تقدم من العين الزجاجية بارتياب وهو يتوقع عودة زوجته من زيارة أهلها في حمص،ولكنه تمهل قليلاً موقناً انها لن تأتي طالما أنه لم يتصل بها عبر الهاتف،نظر من العين الزجاجية فطالعه وجه وداد غارقاً في حزن بليغ،فتح الباب وحاول رسم ابتسامة خفيفة، لكنه فوجئ بيد وداد تنهال على وجهه بسرعة فائقة. صرخ محتجاً، فارتفع صوتها مهدداً، وهي تتهمه بقتل أختها سعاد أثناء الصباح. الاتهام الجائر بعد لحظات امتلأت الشقة برجال الشرطة نظر حوله مصعوقاً وتساءل عن أسباب الاتهام الجائر،قال له ضابط الأمن الجنائي أنه متهم بالقتل، ولا مفر من الهروب. وكشف المحقق أسباب الاتهام مؤكداً أن القاتل يبحث دائماً عن أماكن وأشخاص وأقرباء لكي يثبت مكان إقامته. وسأله لماذا أخذ هذا اليوم بالذات إجازة من عمله، ولم يسافر إلى مدينته لإعادة زوجته، وظل يتجول في أماكن عديدة ويتحدث مع أشخاص كثيرين، وسأل عن الوقت كثيراً. وأكد المحقق أن هذا التصرف المفتعل لإثبات مكان تواجده لا ينقذه من الاتهام بالقتل. أمام قاضي التحقيق رفض اتهامه بالقتل، بعد لحظات أدخل رجال الأمن صديق طفولته عبد الواحد سجل حسين اعترافاته في الضبط الأمني، وأكد أن سعاد تلقت تهديداً بالقتل قبل أيام حينما كان يطالبها بإعادة العلاقة العاطفية وإتمام الزواج. ومرة أخرى رفض الاعتراف. وبعد لحظات أدخل رجال الأمن رجلاً كهلاً، وحينما رآه صرخ انه هو الشخص الذي كان يتردد على منزل سعاد، وغاب فترة قصيرة حينما كان حسين يتردد على شقتها، لكنه دخل البناء هذا الصباح وخرج بعد ما يقارب الربع ساعة حاملاً حقيبة بلاستيكية متوسطة الحجم. في صالون شقته تجمع رجال الأمن، بعدما فتشوا الشقة ولم يجدوا المال والمجوهرات. وبعد لحظات هرع رجل أمن مبتسماً وهو يحمل الثروة المسروقة، وهنا انتبه الجميع إلى رجل يتهاوى ببطء ويسقط على الأرض مصاباً بالإغماء، فأيقنوا أن الثروة المخبأة في غرفة المطبخ ستشكل إدانة أساسية، بينما وقوعه مصاباً بالإغماء يشكّل أيضاً إدانة إضافية.