أغمضت عينيها مرات عديدة محاولة النوم، وحينما تسرب ضوء الصباح أيقنت أن أفكارها الصاخبة ابتلعت كل ساعات الليل. حاولت النهوض من سريرها لكنها شعرت بتعب شديد يعيد إليها رغبة النوم،تذكرت أنها حددت ساعة نهوضها من النوم، ونظرت إلى المنبّه القريب من سريرها لتتفاجأ بأن ثلاث ساعات تبعدها عن الموعد المحدد لإنهاء فترة النوم. يجب أن تنام هذه الساعات على الأقل لكي تتمكن من مواجهة أسعد بذهن يقظ وأسلوب ذكي،عليها أن تستدرجه في البداية، وسيعترف حتماً ويتفاجأ باكتشافها الحقيقة رغم النظارات الداكنة التي تغطي عينيه، عرفته فوراً وهو يقترب نحوها من الخلف. سيصعق حتماً حينما يعرف أنها اكتشفت مهنته الحالية،لم تكن تتوقع أن يتحول أسعد إلى لص يسرق حقائب النساء. كان يجمع أحلامه ويتباهى بطموحاته وهما جالسين في الكافتيريا. ولكن تحول الشاب الطامح بنجومية الأدب والكتابة الدرامية إلى لص وضيع يسرق تعب الناس من الحقائب المحمولة على الأكتاف باطمئنان وارتياح. جسد جامد واستعادت لحظات الحادثة بذهن حانق، منذ خروجها من مكان عملها. في البداية، توقفت أمام دكان الألعاب وأخرجت جزءاً من راتبها الذي قبضته قبل قليل من المحاسب، وابتسمت وهي تدفع قيمة الهدايا التي اشترتها لأبناء أختها، ورددت في سرها أن راتب هذا الشهر سيتعرض للذوبان من الآن. وبعد خطوات قليلة بوغتت بشاب يندفع باتجاهها من الخلف ويخطف الحقيبة ويركض بسرعة هائلة نحو سيارة متوقفة على جانب الرصيف. وشعرت بجسدها يتجمد تلقائياً وبصوتها يغوص في صدرها. كانت تريد أن تصرخ هذا أسعد، أنا أعرفه، امسكوه إنه حرامي. لكنها أصبحت فجأة بلا صوت. فكرت بسرعة وهي تنهض من السرير. أيقنت أنها لن تتمكن من النوم، وعليها أن تتهيأ لأحداث هذا النهار، ويجب أن تستعيد حقيبتها في ساعات الصباح الأولى قبل أن يتبدد المبلغ المالي وتعجز عن دفع مصاريف الشهر وتقع في مشكلة مع أصحاب شقتها لأنهم لن يصدقوها بأنها فقدت راتبها بهذه الطريقة غير المتوقعة. وفكرت قليلاً، وأيقنت أنها تريد أيضاً أن تخبر أم أسعد عن مهنة ابنها الحالية. ترى الأم الطيبة وتحتضنها كما كانت تفعل في السابق، وستنبهها على الخطر المحيط بابنها اللص. ونظرت إلى الساعة وقررت أن تتهيأ للخروج لتنهي هذه المهمة الضرورية. سارت باتجاه الشارع العام وبدأت تبحث عن سيارة عامة. الوقت مازال مبكراً، والساعة لم تتجاوز السادسة صباحاً. شعرت بنظرات فضولية يطلقها أصحاب عربات الخضار المتحركة باتجاه السوق. ستصل إلى هذا السوق وتطرق باب أسعد وتفاجئه بأنها عرفته وهو يسرق الحقيبة، وتريد أموالها فوراً. لقاء النهاية حين جلست في السيارة العامة، استعادت أجزاء من السنوات السابقة. حاولت استرجاع اللحظات الجميلة لكن مشهد لقاء النهاية في تلك الكافتيريا كان يقفز قبل كل اللقاءات السابقة. تذكرت كيف كان أسعد عنيفاً حينما أعلمته بأنها ترفض الزواج منه. لا تريد تبديد حياتها مع شاب فاشل وحالم بالكتابة وعاطل عن العمل. أحضرت له الجريدة الصباحية وسألته إلى متى سيظل يكتب في صفحات القراء، وأكثر ما يرسله لا يصلح للنشر كما يكتب المحرر المختص على زاوية الصفحة. وفي اليوم التالي واجهته بالحقيقة، فهو لا يملك موهبة الكتابة، وكل خواطره وقصصه ومقالاته لن تجعله كاتباً، وعليه أن يسعى لإيجاد مهنة تفيده في مستقبله. وبدت ثورته جامحة. حطم الكؤوس وأطلق صراخاً عنيفاً قبل أن تنهض وتندفع إلى خارج الكافتيريا. وحينما كان يعترضها في الأيام التالية أثناء نزولها من عملها، كانت تعيد على مسامعه رأيها فيه، وتطالبه بأن ينسى فكرة الزواج نهائياً. أمام مدخل سوق قديم توقفت السيارة العامة، نزلت منها بهدوء ونظرت حولها بتفحص. أكثر الدكاكين مازالت مغلقة، وبائعو الخضار والفواكه بدأوا يجهزون بسطاتهم، وعربات النقل بدأت تصل من الأسواق والأحياء المجاورة. إنه منظر مألوف بالنسبة إليها، ولكنها تراه الآن بعين أخرى، وفي السابق كانت تزور أم أسعد في الصباح وهي ذاهبة إلى عملها، وتشعر بالارتياح لحركة الناس في هذا الحي الشعبي وهم ينهضون صباحاً باحثين عن أرزاقهم. وذات يوم سألت أسعد لماذا لا يفتح بقالة صغيرة في هذا الحي، وتحمست أمه بسرعة وهي حزينة على بقائه بدون عمل، لكن أسعد ثار بحدة وشجب هذه الفكرة بشكل نهائي. اقتربت من الباب الخشبي المتصدع، وضغطت على الجرس الكهربائي. بعد لحظات خرج شاب مرتدياً ألبسة النوم. نظرت إليه باستغراب وسألته عن أم أسعد. ابتسم وأكمل فتح الباب مؤكداً أنها في غرفتها. دخلت إلى الممر الضيق وعبرته نحو أرض البيت القديم واتجهت إلى غرفة جانبية. حين أصبحت في داخل الغرفة، لم تجد أم أسعد جالسة على كرسيها الخشبي. انتبهت إلى صورتها المعلقة على الجدار وسط إطار من الكرتون الأسود فأيقنت أنها رحلت عن هذه الدنيا. استغربت وهمت بالخروج واتجهت نحو باب الغرفة، لكنها فوجئت بدخول الشاب وهو يوجّه إليها نظرة نهمة، ويندفع نحوها بسرعة شديدة. دفعته في صدره وصرخت تنادي أسعد. فجأة دخل شاب آخر، ونظر إليها بوله شديد، واندفع نحوها مقهقهاً وهو يقول لها ان صورها الموجودة في الحقيبة فاتنة وجذابة جداً. صرخت بصوت حاد، وهمّت بالركض نحو الباب، وفوجئت بدخول أسعد مستغرباً. نظر إليها بذهول، بينما كان الشابان يشدانها نحو السرير. دم بارد وهجم أسعد على الشابين، وبدأ الصراخ يعلو في أفق الغرفة الضيق. أخرج شاب سكيناً وصرخ مهدداً أسعد ومطالباً إياه بالابتعاد، فأخرج أسعد مسدساً وأطلق رصاصة باتجاه الجدار، ولم تشعر هي سوى بدم خفيف ينزلق فوق شفتيها، وأيقنت أن الرصاصة اصطدمت بالجدار القريب منها وارتدّت إلى وجهها وأحدثت جرحاً بليغاً. انتبهت إلى ما يدور حولها بسرعة شديدة، ونظرت إلى الباب فوجدته مازال مفتوحاً، وركضت لاهثة عبر البيت القديم. حين خرجت إلى الحي كانت الدكاكين مفتوحة وأصوات الباعة تتعالى، فهرع إليها البعض، وركض البعض إلى بيت أسعد، ولاحظت أن رجلاً رفع جهاز الهاتف وصرخ بسرعة طالباً الشرطة. في قسم الشرطة وقفت أمام أسعد ورفيقيه. كان الثلاثة مكبلين بالقيود الحديدية، وعلى وجوههم آثار كدمات عديدة. أعادها رجال الشرطة من المستشفى بعدما ضمدوا جرحها الصغير، وواجهوها مع أسعد وعصابته. نظرت إلى أسعد فألقى إلى الأرض نظرة منكسرة. أومأت برأسها وقالت انها كانت تزور أم أسعد لأنها صديقتها ولم تزرها منذ فترة بعيدة. وضحك ضابط التحقيق ساخراً وهو يضع أمامها حقيبتها المسروقة، ففتحها بسرعة وأخرجت علب الماكياج وفهرس الهاتف وألبوم صور صغير، وأمسكت الأوراق المالية بيد مرتجفة، وحينما نظرت إلى أسعد أكد لها أنه لم يعرفها حينما هاجمها من الخلف وخطف حقيبتها. وقال ضابط التحقيق متهكماً أن تسترها على عملية السرقة لن يخلّص أسعد وعصابته من القضاء لأنهم اعترفوا بسرقات كثيرة.